مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ} (138)

قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون }

والقول الثاني : المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض ، وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس . وقوله : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل } قيل المراد من { كلمة ربك } قوله : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } إلى قوله : { ما كانوا يحذرون } والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ، ومعنى تمت على بني إسرائيل ، مضت عليهم واستمرت ، من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك . وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق . فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله : { بما صبروا } أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم ، وحسبك به حاثا على الصبر ، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج ، وقرأ عاصم في رواية { وتمت كلمة ربك الحسنى } ونظيره { من آيات ربه الكبرى } وقوله : { ودمرنا } قال الليث : الدمار الهلاك التام . يقال : دمر القوم يدمرون دمارا أي هلكوا ، وقوله : { ما كان يصنع فرعون وقومه } قال ابن عباس يريد الصانع { وما كانوا يعرشون } قال الزجاج : يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني ، قيل : وما كانوا يعرشون من الجنات ، ومنه قوله تعالى : { جنات معروشات } وقيل : { وما كانوا يعرشون } يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء ، كصرح هامان وفرعون . وقرئ يعرشون بالكسر والضم ، وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح ، قال صاحب «الكشاف » : وبلغني أنه قرأ بعض الناس { يغرسون } من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفا منه ، وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى .

اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى ، وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة ، ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة ، وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبسا بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوما يعكفون على عبادة أصنامهم ، جهلوا وارتدوا وقالوا : لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، ولا شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون ، ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده ، وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف .

أما قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } يقال : جاوز الوادي . إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره ، عبر به وقرئ { جوزنا } بمعنى : أجزنا . يقال : أجاز المكان وجوزه بمعنى : جازه { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } قال الزجاج : يواظبون عليها ويلازمونها . يقال : لكل من لزم شيئا وواظب عليه ، عكف يعكف ويعكف ، ومن هذا قيل لملازم المسجد متعكف . وقال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولا بالريف . قال ابن جريج : كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل .

ثم حكى تعالى عنهم أنهم { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا ومدبرا ، لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره : لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له ، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } .

إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : لم كان هذا القول كفرا ؟ فنقول : أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم ، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والإكرام .

فإن قيل : فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم ؟

قلنا : بل من بعضهم ، لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل .

ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال : { إنكم قوم تجهلون } وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل ، وخلق الأشياء المنتفع بها ، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى ، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به .

فإن قالوا : إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى ، فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟

قلنا : فعلى هذا التقدير : لم يتخذوها آلهة أصلا وإنما جعلوها كالقبلة ، وذلك ينافي قولهم { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } واعلم أن { ما } في قوله : { كما لهم آلهة } يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة ، ويجوز أن تكون موصولة ، وفي قولهم : { لهم } ضمير يعود إليه ، و{ آلهة } بدل من ذلك الضمير تقديره : كالذي هو لهم آلهة .