الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ} (138)

قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ } : كقوله : { فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ }

[ البقرة : 50 ] من كونِ الباء يجوز أن تكونَ للتعدية ، وأن تكون للحالية كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريبا

وقد تقدَّم ذلك . وجاوز بمعنى جاز . ففاعَل بمعنى فَعَل . وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب : جَوَّزنا بالتشديد ، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر .

قوله : { يَعْكُفُونَ } صفة ل " قوم " . وقرأ الأخَوَان " يعكفون " بكسر العين ، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً . والباقون بالضم ، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون . وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة .

قوله : { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً ، أي : إلهاً مماثلاً لإِلههم . وفي " ما " ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها موصولةٌ حرفية أي : تَتَأوَّل بمصدرٍ ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة ، وإذا حُذِفت صلة " ما " المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم : " لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه " أي : ما ثبت أن حراء مكانه . وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، فآلهة فاعل ب " ثبت " المقدر . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : " والجملة بعدها صلةٌ لها ، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل " . قلت : كلامُه على ظاهره ليس بجيد ؛ لأن " ما " المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله :

واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ *** فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ

ولكنَّ مرادَه أنَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل ، وحينئذ تَؤُول إلى جملة فعلية أي : كما استقرَّ لهم آلهةٌ .

الثاني : أن تكونَ " ما " كافَّةً لكاف التشبيه/ عن العمل فإنها حرف جر . وهذا كما تُكَفُّ " رُبَّ " ، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوزُ في الكاف وفي " رب " مع ما الزائدة بعدهما وجهان : العملُ والإِهمالُ ، وعلى ذلك قول الشاعر :

ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه *** كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ

وقول الآخر :

رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ *** وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى

يروى برفع " الناس " و " الجامل " وجرِّهما . هذا إذا أمكن الإِعمال . أمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أن تكونَ كافَّةً كهذه الآيةِ إذا قيل بأن " ما " زائدة .

الثالث : أن تكون " ما " بمعنى الذي ، و " لهم " صلتها وفيه حينئذ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر ، و " آلهة " بدل من ذلك الضمير . والتقدير : كالذي استقر هو لهم آلهة . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : " والعائد محذوف و " آلهة " بدلٌ منه تقديره : كالذي هو لهم " وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار .