معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ} (6)

{ بأيكم المفتون } قيل معناه : بأيكم المجنون . ف { المفتون } مفعول بمعنى المصدر ، كما يقال : ما بفلان مجلود ومعقول ، أي جلادة وعقل . وهذا معنى قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس . وقيل الباء بمعنى في ، مجازه : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون ، في فريقك أم في فريقهم ؟ . وقيل : بأيكم المفتون ، وهو الشيطان الذي فتن بالجنون ، وهذا قول مجاهد . وقال الآخرون : الباء فيه زائدة ، معناه : أيكم المفتون ؟ أي المجنون الذي فتن بالجنون ، وهذا قول قتادة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ} (6)

وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم ؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :

( فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . .

والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال . أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقته . وكلا المدلولين قريب من قريب . . وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه . . أيا كان مدلول الجنون الذي رموه به . والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل . فالواقع يكذب هذا القول . إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع - كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانا هو الذي يمده ببديع القول ! - وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم .

وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه . ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه ؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه . ويطمئنه إلى أن ربه ( هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . . وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه . وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ} (6)

واختلف الناس في معنى قوله : { بأيكم المفتون } . فقال أبو عثمان المازني : الكلام تام في قوله : { يبصرون } ، ثم استأنف قوله : { بأيكم المفتون } ، وقال الأخفش : بل الإبصار عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها ، وأما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة : هي زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون{[11236]} . وقال الحسن والضحاك : { المفتون } بمعنى الفتنة ، كما قالوا : ما له معقول{[11237]} ، أي عقل ، وكما قالوا : اقبل ميسوره ودع معسوره ، فالمعنى : { بأيكم } هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً ، وقال آخرون : { بأيكم } فتن { المفتون } وقال الأخفش ، المعنى : { بأيكم } فتنة { المفتون } ، ثم حذف المضاف وأقيم ما أضيف إليه مقامه ، وقال مجاهد والفراء : الياء بمعنى : في أي ، في أي فريق منكم النوع المفتون .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن قليل التكلف ، ولا نقول إن حرفاً بمعنى حرف ، بل نقول إن هذا المعنى يتوصل إليه ب «في » وبالباء أيضاً ، وقرأ ابن عبلة «في أيكم المفتون » .


[11236]:وزيادة الباء كثيرة في كلام العرب، ومن ذلك قوله تعالى: {تنبت بالدهن}، وقوله تعالى: {يشرب بها عباد الله}، ومنه قول الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي: ونرجو الفرج، هذا والفلج- بفتح الفاء واللام- : مدينة بأرض اليمامة كانت لبني جعدة- (راجع الخزانة، وشواهد المغني، والاقتضاب).
[11237]:من كلام العرب: "مالفلان مجلود ولا معقول"، أي ماله عقل ولا جلادة، وقال الراعي: حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا أي عقلا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ} (6)

و ( أي ) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، ويظهر أن مدلول ( أي ) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جَعْلي ، فهذا مدلول ( أيّ ) في جميع مواقعه ، وله مواقع كثيرة في الكلام ، فقد يشرب ( أيّ ) معنى الموصول ، ومعنى الشرط ، ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل ، ومعنى المعرّف ب ( ال ) إذا وُصل بندائه . وهو في جميع ذلك يفيد شيئاً متميزاً عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه ، فقوله تعالى : { بأيكم المفتون } معناه : أيُّ رجل ، أو أيُّ فريق منكم المفتون ، ف ( أي ) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل ( تُبصر ويبصرون ) أو متعلق به تعلقَ المجرور .

وقد تقدم استعمال ( أيّ ) في الاستفهام عند قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة { الأعراف : 185 ] .

والمفتون } : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة ، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة ( يقولون للمجنون : فَتَنَتْهُ الجن ) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلاً ، بإيثار هذا اللفظ ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجَّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين .

فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة .

والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله ، والأصل : أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى : في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون ، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضاً بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلاً معروفاً بين العقلاء مذكوراً برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل { المفتون } في الآية وصفاً ادعائياً على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :

إذا تَرحَّلْت عن قوم وقد قدروا *** أن لا تفارقهم فالرَّاحلون هُمُو

ويجوز أن يكون { المفتون } مصدراً على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجَلْد ؛ والميْسور لليسر ، والمعسورِ لضده ، وفي المثل « خُذ من ميْسوره ودَعْ معسوره » .

والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على { المفتون } وهو مبتدأ .

يُضمن فعل ( تُبصر ويبصرون ) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين . والمعنى : فستعلم يقيناً ويعلمون يقيناً بأيّكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ( يبصر ويُبصرون ) .