اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ} (6)

قوله : { بِأَيِّكُمُ المفتون } فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون ، فزيدت كزيادتها في نحو «بحسبك زيد » ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى .

إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في «حَسْبُك » فقط .

الثاني : أن الباء بمعنى «فِي » فهي ظرفية ، كقولك : «زيْدٌ بالبصرةِ » أي : فيها ، والمعنى : في أي فرقة ، وطائفة منكم المفتون : أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء{[57539]} .

ويؤيده قراءة{[57540]} ابن أبي عبلة : «فِي أيكمُ » .

والثالث : أنه على حذف مضاف ، أي «بأيكم فتن المفتون » فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإليه ذهب الأخفش{[57541]} . وتكون الباء سببية .

والرابع : أن المفتون مصدر جاء على «مفعول » ك «المعقول » و «الميسور » ، والتقدير : «بأيكمُ المفْتُونُ » .

فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله : «ويُبْصرُونَ » ، ويبتدأ بقوله «بأيكمُ المفتُونُ » .

وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها ، ولا يوقف على «يُبْصِرُونَ » .

وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون «المَفْتُونُ » اسم مفعول على أصله ، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً ، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله : «المَفْتُونُ » سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا ، لأن قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } معلق بالاستفهام بعده ، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية ، تعلق على الصحيحِ ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا ، فكذلك الإبصار ، لأنه هو الرؤية بالعين ، فعلى القول بزيادة الباء ، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب ؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار .

فصل :

قال القرطبيُّ{[57542]} : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } بأيكم المفتون ، الذي فتن بالجنون ، كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن }[ المؤمنون : 20 ] و{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، وهو قول قتادة وأبي عبيدة{[57543]} كما تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة ، والمعنى «بأيكم المفتون » أي : الفتنة ، وهو مصدر على وزن المفعول ، ويكون المعنى : المفتون ، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول ، أي : عقل ولا جلادة ، قاله الحسن والضحاك وابن عباس .

قال الراعي : [ الكامل ]

4810 - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ*** لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا{[57544]}

أي عقلاً ، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ .

وقيل : المفتون المعذب ، من قول العرب فتنت الذهب بالنار ، إذا حميته ، قال تعالى { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ }[ الذاريات : 13 ] أي : يعذبون ، وقيل : المفتون : الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه ، وكانوا يقولون : إن به شيطاناً ، وعنوا بالمجنون هذا ، فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غداً بأيهم [ المجنون ]{[57545]} أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل .


[57539]:ينظر: معاني القرآن 3/173.
[57540]:ينظر: البحر المحيط 8/303، والدر المصون 6/351.
[57541]:ينظر: البحر المحيط 8/303.
[57542]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/150.
[57543]:زاد في أ: والضحاك.
[57544]:ينظر: القرطبي (18/150).
[57545]:في أ: المفتون.