{ يضاعف له العذاب يوم القيامة } بدل من { يلق } لأنه في معناه كقوله :
متى تأتينا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وقرأ أبو بكر بالرفع على الاستئناف أو الحال وكذلك : { ويخلد فيه مهانا } وابن كثير ويعقوب يضعف بالجزم وابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد وحذف الألف في " يضعف " ، وقرئ { ويخلد } على بناء المفعول مخففا ، وقرئ مثقلا وتضعيف العذاب مضاعفته لانضمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله :
جملة : { يضاعف له العذاب } بدلُ اشتمال من { يلق أثاماً } ، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابلٌ للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عِماد الجملة . وجُعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود .
فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جُرم مما ذكر عذاباً مناسباً ولا يكتفَى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك ، تنبيهاً على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد ، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها . وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يَعنون خطاب المؤاخذة على ما نُهوا عن ارتكابه ، وليس المراد أنهم يُطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان ، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله .
وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك .
وقوله : { مهاناً } حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة ، أي يعذّب ويُهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر .
وقرأ الجمهور : { يضاعفْ } بألف بعد الضاد وبجزم الفعل . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقُوب { يضعَّف } بتشديد العين وبالجزم . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { يضاعفُ } بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه} يعني: في العذاب {مهانا} يعني: يهان فيه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانا": ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} إن قيل: أخبر ههنا أنه يضاعف له العذاب، وقال في آية أخرى {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها} [غافر: 40] فما معنى الضعف ههنا؟ قيل: يحتمل وجوها:
أحدهما: أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم: إذا كفروا بالله بعد ما بلغوا المبلغ الذي وصفهم والرتبة التي ذكر، وهو قوله: {وعباد الرحمن} [الفرقان: 63] أن واحدا منهم، إذا كفر {يضاعف له العذاب} يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند الله وعلى قدر نعم الله عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك؛ وهو كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74 و75] أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، وما ذكر لأزواجه حين قال: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبنية يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. كل من كان أعظم قدرا وأكثر نعما عليه فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة، فتكون ضعف غيره وجزاء مثله.
والثاني: أن يكون ذلك للأئمة؛ أعني الكفرة والرؤساء دون الأتباع لأنهم عملوا هم بأنفسهم، ودعوا غيرهم إلى ذلك كقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت: 13].
والثالث: أن يكون ذلك للعناد الذي كان منهم والمكابرة.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا، لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب. (المستصفى: 1/92)
سبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: يكرر عليه ويغلظ، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي: حقيرا ذليلا.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
المعنى: ومن يأت هذه الأفعال؛ فدعا مع الله إلها آخر، أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو زنا، فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه، وجزائها في أخراه ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفا مزيدا عليه أنواع أخرى، ويستمر فيه باقيا ذليلا محقرا.
سر المضاعفة: توجيه: إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب؛ لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور. ففي دعاء غير الله الجهل بالله، والكفر بنعمة الله، والإبطال لحق الله. وفي قتل النفس تأييم، و تيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول، وتعد على جميع النوع، وتهوين لهذا الجرم الكبير. وفي الزنا جناية على النسل المقطوع، وعلى من أدخل عليهم من الزنا من ليس منهم، وعلى أصحاب الإرث في خروج حقهم لغيرهم، وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل، وهو من مقتضى الحكمة والعدل.
تذكر: يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الآثام، لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سوء عاقبتها، وتعدد شرورها، وتشعب مفاسدها، ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها، لنزدجر وننكف، فنسلم من الشر المتراكم، والعذاب المضاعف، ونفوز بأجر التذكر و ثمرة التذكير. جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى، وسلم من فتن الدنيا والأخرى، بمنه وكرمه آمين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جُرم مما ذكر عذاباً مناسباً ولا يكتفَى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك، تنبيهاً على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها. وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يَعنون خطاب المؤاخذة على ما نُهوا عن ارتكابه، وليس المراد أنهم يُطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله. وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك. وقوله: {مهاناً} حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة، أي يعذّب ويُهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن هذا الأثام شديد، حتى إنه ليحسب أنه مضاعف الإثم ليس مثله، ولذا قال تعالى في بيان هذا الأثام وتوضحيه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
إن الله تعالى عدل، يجازي السيئة بمثلها، ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها، فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب...
والذي يبدو لي... أن العذاب شديد عنيف حتى إنه ليبدو لدى المعاقب، كأنه مضاعف للذنب، وإن المذنب دائما يحس بالجزاء كأنه أكثر من الذنب، فالله تعالى يصور له العقاب كأنه مضاعف، ولأنه يتجدد آنا بعد آن، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، فهو عذاب بعد عذاب، وبهذا التكرار الدائم يكون كأنه مضاعف.
وإنه عذاب دائم مستمر، ولذا قال تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}، أي أنه مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة، وكذلك يستبدل الله بغطرستهم الجاهلية، واعتزازهم الظالم العاتي مهانة دائمة مستمرة...