معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (141)

قوله تعالى : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً الذين يتربصون بكم } ، ينتظرون بكم الدوائر ، يعني : المنافقين .

قوله تعالى : { فإن كان لكم فتح من الله } ، يعني : ظفر وغنيمة .

قوله تعالى : { قالوا } ، لكم .

قوله تعالى : { ألم نكن معكم } على دينكم في الجهاد ، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة .

قوله تعالى : { وإن كان للكافرين نصيب } ، يعني دولة وظهورا على المسلمين .

قوله تعالى : { قالوا } ، يعني : المنافقين للكافرين .

قوله تعالى : { ألم نستحوذ عليكم } ، والاستحواذ : هو الاستيلاء والغلبة ، قال الله تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان } [ المجادلة :19 ] أي : استولى وغلب ، يقول : ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ونطلعكم على سرهم ، قال المبرد : يقول المنافقون للكفار : ألم نغلبكم على رأيكم .

قوله تعالى : { ونمنعكم } ، ونصرفكم .

قوله تعالى : { من المؤمنين } ، أي : عن الدخول في جملتهم وقيل : معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ، ونمنعكم من المؤمنين ؟ أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين .

قوله تعالى : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } ، يعني : بين أهل الإيمان وأهل النفاق .

قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ، قال علي : في الآخرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم : أي حجة ، وقيل : ظهوراً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (141)

135

ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين ، فيرسم لهم صورة زرية منفرة ؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ؛ ويمسكون العصا من وسطها ، ويتلوون كالديدان والثعابين :

( الذين يتربصون بكم . فإن كان لكم فتح من الله ، قالوا : ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة . ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) . .

وهي صورة منفرة . تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر ، وما يتربصون بها من الدوائر وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون : حينئذ :

( ألم نكن معكم ؟ ) . .

ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف : - أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم ! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم !

( وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ ) . .

يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم ؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف ! !

وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين . في قلوبهم السم . وعلى ألسنتهم الدهان ! ولكنهم بعد ضعاف ؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين . . وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين .

ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول [ ص ] بتوجيه ربه في مسألة المنافقين ، هي الإغضاء والإعراض ، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم ؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين ! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة ؛ حيث يكشف الستار عنهم ، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين :

( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) . .

حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور .

ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع ؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر ، وهذا التآمر مع الكافرين ، لن يغير ميزان الأمور ؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين :

ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .

وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل .

كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .

وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب ، لأنه ليس فيه تحديد .

والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . . أما بالنسبة للدنيا ، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق :

إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . . فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . .

وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها !

وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك ، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ؛ ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !

ففي " أحد " مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول [ ص ] وفي الطمع في الغنيمة . وفي " حنين " كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل ! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .

نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .

على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !

كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ؛ وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .

وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ؛ وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .

إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لاتضعف ولا تفنى . . وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . . ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية ، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا .

غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . . إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن " حقيقة " الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . . لأن حقيقة أي شيء أقوى من " مظهر " أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !

إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . . ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . .

ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (141)

{ يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء ، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم ، وظهور الكفر{[8483]} عليهم ، وذهاب ملتهم { . فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ } أي : نصر وتأييد وظَفَر وغنيمة { قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } ؟ أي : يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة { وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } أي : إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها{[8484]} العاقبة { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؟ أي : ساعدناكم في الباطن ، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم .

وقال السدي : { نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } نغلب عليكم ، كقوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ } [ المجادلة : 19 ] وهذا أيضًا تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم ، وقلة إيقانهم .

قال الله تعالى : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ{[8485]} يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بما يعلمه منكم - أيها المنافقون - من البواطن الرديئة ، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرًا في الحياة الدنيا ، لما له [ تعالى ]{[8486]} في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم{[8487]} ظواهركم ، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويُحَصَّل ما في الصدور .

وقوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذَرّ ، عن يُسَيْع الكندي قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فقال : كيف هذه الآية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : ادْنُه ادنه ، ثم قال : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا }

وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } قال : ذاك يوم القيامة . وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي : يعني يوم القيامة . وقال السدي : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } أي : حجة .

ويحتمل أن يكون المراد : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } أي : في الدنيا ، بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ . يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ]{[8488]} } [ غافر : 51 ، 52 ] . وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه{[8489]} وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ ]{[8490]} نَادِمِينَ } [ المائدة : 52 ] .

وقد استدل كثير من العلماء{[8491]} بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء ، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال ؛ لقوله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا }


[8483]:في د، ر، أ: "الكفرة".
[8484]:في ر: "تكون لها"، وفي أ: "تكون لهم".
[8485]:في ر: "بينهم".
[8486]:زيادة من: أ.
[8487]:في ر: "ينفعكم".
[8488]:زيادة من ر أ، وفي هـ: "الآية".
[8489]:في ر: "ويرجوه".
[8490]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
[8491]:في ر، أ: "الفقهاء".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (141)

جملة { الذين يتربّصون بكم } صفة للمنافقين وحدَهم بدليل قوله : { وإن كان للكافرين نصيب } .

والتربّص حقيقة في المكث بالمكان ، وقد مرّ قوله : { يتربّصن بأنفسهنّ } في سورة البقرة ( 228 ) . وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث . وتفصيله قوله : { فإن كان لكم فتح من الله } الآيات . وجُعل ما يحصل للمسلمين فتحاً لأنّه انتصار دائم ، ونُسب إلى الله لأنّه مُقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بينّة . والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة ، إذ لا حظّ لليهود في الحرب ، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيباً تحقيراً له ، والمراد نصيب من الفوز في القتال .

والاستحواذ : الغلبة والإحاطة ، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفاً بعد الفتحة على خلاف القياس . وهذا أحد الأفعال التي صُحّحت على خلاف القياس مثل : استجوب ، وقد يقولون : استحاذ على القياس كما يقولون : استجَاب واستصاب .

والاستفهام تقريري . ومعنى { ألم نستحوذ عليكم } ألم نتولّ شؤونكم ونحيط بكم إحاطة العنايية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين ، أي من أن ينالكم بأسهم ، فالمنع هنا إمّا منعٌ مكذوبٌ يخَيِّلُونه الكفارَ واقعاً وهو الظاهر ، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين ، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين ، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين ، وكلّ ذلك ممّ يضعف بأس المؤمنين إن وقع ، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات ، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحْزاب .

وقوله : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } الفاء للفصيحة ، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمُهمّ المؤمنين ، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى .

وقوله : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } تثبيت للمؤمنين ، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبّهم : من عدوّ مجاهر بكفره . وعدو مصانع مظهر للأخوّة ، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة ، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يُخيِّل لهم مَهاوي الخيبة في مستقبلهم . فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب ذلك التحذير بالشدّ على العضد ، والوعد بحسن العاقبة ، فوَعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين ، وإن تألّبت عصاباتهم . واختلفت مناحي كفرهم ، سبيلاً على المؤمنين .

والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة ، بقرينة تعديته بعَلَى ، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته ، ولو قال لك الحبيب : لا سبيل إليك ، لتحسّرت ؛ ولو قال لك العدوّ : لا سبيل إليك لتهلّلت بشراً ، فإذا عُدّي بعلى صار نصاً في سبيل الشرّ والأذى ، فالآية وعد محض دنيوي ، وليست من التشريع في شيء ، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين .

فإن قلت : إذا كان وعداً لم يجز تخلّفه . ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصراً بيّناً ، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد . قلتُ : إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل ، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذٍ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلاً ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبْحوا أنصاراً للدين ؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه ، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالاً ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالاً .