فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (141)

{ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 141 ) } .

{ الذين يتربصون بكم } أي ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر ، يقال تربصت الأمر تربصا انتظرته ، والربصة وزان غرفة اسم منة ، وتربصت الأمر بفلان انتظرت وقوعه به ، والخطاب في ( بكم ) للمؤمنين والموصول صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ، وعليه جرى القاضي كالكشاف ويجوز أن يكون على الذم .

{ فإن كان لكم فتح } هذه الجملة والتي بعدها حكاية لتربصهم أي إن حصل لكم فتح { من الله } بالنصر على من يخالفكم من الكفار وبالظفر على عدوكم وغنيمة تنالون منهم { قالوا } لكم { ألم نكن معكم } في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد .

{ وإن كان للكافرين نصيب } من الغلب لكم والظفر بكم { قالوا } للكافرين { ألم نستحوذ عليكم } أي ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم ، وقيل المعنى إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم .

والأول أولى فإن معنى الاستحواذ الغلب يقال استحوذ على كذا أي غلب عليه ، ومنه قوله تعالى { استحوذ عليهم الشيطان } ولا يصح أن يقال نغلبكم حتى هابكم المسلمون ، ولكن المعنى ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين .

وسمي ظفر المسلمين فتحا ، وظفر الكافرين نصيبا تعظيما لشأن المسلمين وتحقيرا لحظ الكافرين لتضمن الأول نصرة دين الله وإعلاء كلمته ، ولهذا أضاف الفتح إليه تعالى ، وحظ الكافرين في ظفرهم دنيوي سريع الزوال ، قاله الكرخي .

{ ونمنعكم من المؤمنين } بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم ، والمراد أنهم يميلون إلى من له الغلب والظفر من الطائفتين ، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة{[556]} .

وهذا شان المنافقين أبعدهم الله وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى ، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه ، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها .

{ فالله يحكم بينكم } وبينهم { يوم القيامة } بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق وتظهر الضمائر ، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا ، وقيل يحكم بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار{[557]} .

{ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } هذا في يوم القيام إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة يعني حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة ، قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك يوم القيامة ، وبه قال علي وابن عباس .

قال ابن العربي وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } وذلك يسقط فائدته إذ يكون تكرارا ، هذا معنى كلامه .

وقيل المعنى أن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم بالكلية ويذهب آثارها ، ويستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا .

وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ، ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا وقيل إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا فإن وجد فبخلاف الشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة .

هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل منها أن الكافر لا يرث المسلم ، ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه ، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما ، ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي إلى غير ذلك من الأحكام .


[556]:أخرجه عبد الرزاق: 51 وابن جرير9/327 بإسناد صحيح، والحاكم 2/309. وصححه ووافقه الذهبي، والسيوطي في "الدر"2/235.
[557]:ذكر القرطبي في "تفسيره" 5/419 للآية التأويل الثالث: وهو أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم.