قوله تعالى : { فإن عثر } ، أي : اطلع على خيانتهما ، وأصل العثور : الوقوع على الشيء .
قوله تعالى : { على أنهما } ، يعني : الوصيين .
قوله تعالى : { استحقا } ، استوجبا .
قوله تعالى : { إثما } ، بخيانتهما وبأيمانهما الكاذبة .
قوله تعالى : { فآخران } من أولياء الميت .
قوله تعالى : { يقومان مقامهما } ، يعني : مقام الوصيين .
قوله تعالى : { من الذين استحق } ، بضم التاء على المجهول ، هذه قراءة العامة ، يعني : الذين استحق .
قوله تعالى : { عليهم } ، أي فيهم ولأجلهم الإثم ، وهم ورثة الميت . استحق الحالفان بسببهم الإثم ، و( على ) بمعنى ( في ) ، كما قال الله { على ملك سليمان } [ البقرة :102 ] وقرأ حفص ( استحق ) بفتح التاء والحاء ، وهي قراءة علي والحسن ، أي : حق ، ووجب عليهم الإثم ، يقال : حق واستحق ، بمعنى واحد .
قوله تعالى : { الأوليان } ، نعت للآخران ، أي : فآخران الأوليان ، وإنما جاز ذلك والأوليان معرفة ، والآخران نكرة ، لأنه لما وصف الآخران فقال { من الذين } صار كالمعرفة في المعنى ، والأوليان تثنية الأولى ، ولأولى هو أقرب ، وقرأ حمزة ، وأبو بكر ، عن عاصم ، ويعقوب { الأولين } بالجمع ، فيكون بدلا من الذين ، والمراد منهم أيضا أولياء الميت . ومعنى الآية : إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت .
قوله تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } ، يعني : يميننا أحق من يمينهما ، نظيره قوله تعالى في اللعان : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } . [ النور :6 ] . والمراد بها الأيمان ، فهو كقول القائل : أشهد بالله ، أي : أقسم بالله .
قوله تعالى : { وما اعتدينا } ، في أيماننا ، وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما .
قوله تعالى : { إنا إذا لمن الظالمين } . فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، فحلفا بالله بعد العصر ، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت . وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، فأتوب إلى الله وأستغفره ، وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه . والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال : إنه أوصى لي به حلف الوارث ، إذا أنكر ذلك ، وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ، ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي ، حلف المدعي أنه لم يبعها منه ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن تميم الداري قال : كنا بعنا الإناء بألف درهم ، فقسمتها أنا وعدي ، فلما أسلمت تأثمت ، فأتيت موالي الميت ، فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحلف عمرو والمطلب ، فنزعت الخمسمائة من عدي ، ورددت أنا الخمسمائة .
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته ، من الذين وقع عليهم هذا الإثم ، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين ، وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غَلاَّ شيئًا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور : " اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان " . ورُوي عن علي ، وأُبيّ ، والحسن البصري أنهم قرؤوها : { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } .
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . {[10517]}
وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : " من الذين استحق عليهم الأوَّلِين " . وقرأ الحسن : " من الذين استحق عليهم الأوَّلان " ، حكاه ابنُ جرير .
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن كنا قد كذبنا عليهما .
وقوله تعالى : { فإن عثر } استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه اتفاقاً وبعد أن لم ُيرَج ولم يقصد ، وهذا كما يقال : على الخبير سقطت ، ووقعت على كذا ، قال أبو علي : والإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأخذه إثم ، فسمي آثماً كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة ، قال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر .
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر هنا أن الإثم عل بابه وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتها لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك ، و { استحقا } معناه استوجباه من الله وكانا أهلاً له فهذا استحقاق على بابه ، أنه استيجاب حقيقة ، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا » لأنهما ظلما وخانا فيه ، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان ، وذلك هو الإثم ، وقوله تعالى : { فآخران } أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «استُحق » مضمومة التاء . و { الأوليان } على التثنية لأولى وروى قرة عن ابن كثير «استَحق » بفتح التاء «الأوليان » على التثنية وكذلك ورى حفص عن عاصم ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر «استُحق » بضم التاء «الأَّوَلين » على جمع أول ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «استَحق » بفتح التاء «الأولان » على تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين «الأولين » على تثنية أول ، ونصبهما على تقدير الأولين ، فالأولين في الرتبة والقربى{[4781]} .
قال أبو علي في قراءة ابن كثير ومن معه{[4782]} : لا يخلو ارتفاع الأوليان من أن يكون على الابتداء وقد أخر فكأنه في التقدير و «الأوليان » بأمر الميت آخران يقومان ، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان ، أو يكون مسنداً إليه استحق ، وأجاز أبو الحسن فيه شيئاً آخر ، وهو أن يكون «الأوليان » صفة ل «آخران » ، لأنه لما وصف خصص ، فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له{[4783]} .
قال القاضي أبو محمد : ثم قال أبو علي بعد كلامه هذا : فأما ما يسند إليه «استحق » فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية ، أو الإثم . وسمي المأخوذ إثماً كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة . ولذلك جاز أن يستند إليه { استحق } ثم قال بعد كلام : فإن قلت هل يجوز أن يسند { استحق } إلى { الأوليان } ؟ . فالقول إن ذلك لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها ، وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام نظر . ويجوز عندي أن يسند { استحق } إلى { الأوليان } . وذلك أن أبا علي حمل لفظة الاستحقاق على أنه حقيقي فلم يجوزه إلا حيث يصح الاستحقاق الحقيقي في النازلة ، وإنما يستحق حقيقة النصيب ونحوه ، ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثماً فإن الاستحقاق هنا حقيقة وفي قوله استحق مستعار ، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه . فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة . إذ قد تسور تسوره وتملك تملكه . وكذلك يقال فلان قد استحق ومنه شغل كذا إذا كان ذلك الأمر قد غلبه على أوقاته ، وهكذا هي استحق في الآية على كل حال وإن أسندت إلى الأنصباء ونحوه لأن قوله { استحق } صلة ل { الذين } ، و { الذين } واقع على الصنف المناقض للشاهدين الجائرين ، فالشاهدان ما استحقا قط في هذه النازلة شيئاً حقيقة استحقاق ، وإنما تسورا تسور المستحق فلنا أن نقدر الأوليان ابتداء وقد أخر . فيسند { استحق } على هذا إلى المال أو النصيب ونحوه على جهة الاستعارة . وكذلك إذا كان { الأوليان } خبر ابتداء وكذلك على البدل من الضمير في { يقومان } وعلى الصفة على مذهب أبي الحسن . ولنا أن نقدر الكلام بمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها والمبتغى أن يحضر وليها ، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذا الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ، ثم بني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً ويقوي هذا الغرض أن تعدي الفعل ب «على » لما كان باقتدار وحمل هيئته على الحال .
ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار والضمير في { عليم } عائد على كل حال في هذه القراءة على الجماعة التي تناقض شاهدي الزور الآثمين ، ويحتمل أن يعود على الصنف الذين منهم شاهد الزور على ما نبينه الآن إن شاء الله في غير هذه القراءة وأما رواية قرة عن ابن كثير «استحق » بفتح التاء فيحتمل أن يكون الأوليان ابتداء أو خبر ابتداء ، ويكون المعنى في الجمع أو القبيل الذي استحق القضية على هذا الصنف الشاهد بالزور ، الضمير في عليهم عائد على صنف شاهدي الزور .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا التأويل تحويل وتحليق وصنعة في { الذين } ، وعليه ينبني كلام أبي علي في كتاب الحجة ، ويحتمل أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم القيام ، والصواب من التأويلين أن الضمير في { عليهم } عائد على { الذين } ، و { الأوليان } رفع ب { استحق } وذلك متخرج على ثلاثة معان{[4784]} .
أحدها أن يكون المراد من الذين استحق عليهم مالهم وتركتهم شاهدا الزور . فسمى شاهدي الزور أوليين من حيث جعلتهما الحال الأولى كذلك ، أي صيرهم عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته فجارا فيها ، والمعنى الثاني أن يكون المراد من الجماعة الذين حق عليهم أن يكون منهم الأوليان ، فاستحق بمعنى حق ووجب ، كما تقول هذا بناء قد استحق بمعنى حق كعجب واستعجب ونحوه ، والمعنى الثالث أن يجعل استحق بمعنى سعى واستوجب ، فكأن الكلام فآخران من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم حقهم ، أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقرباهما ، ونحو هذا المعنى الذي يعطيه التعدي ب «على » قول الشاعر :
اسعى على حيِّ بني ملك *** كل امرىء في شأنه ساع{[4785]}
وكذلك في الحديث : «كنت أرعى عليهم الغنم » في بعض طرق حديث الثلاثة الذين ذكر أحدهم بره بأبويه حين انحطت عليهم الصخرة{[4786]} .
وأما قراءة حمزة{[4787]} فمعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ، ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية ، وذلك في قوله { اثنان ذوا عدل منكم } ثم بعد ذلك قال { أو آخران من غيركم } وقوله تعالى : { فيقسمان بالله } يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي التحريف ، وقولهما { لشهادتنا أحق من شهادتهما } أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القضية أحق مما ذكراه أولاً ، وحرفا فيه ، وما اعتدينا نحن في قولنا هذا ولا زدنا على الحد ، وقولهما { إنا إذاً لمن الظالمين } في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه .
قوله : { فإن عُثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران } الآية ، أي إن تبيَّنَ أنّهما كتما أو بدّلا وحنثا في يمينهما ، بطلت شهادتهما ، لأنّ قوله { فآخران يقومان مقامهما } فرع عن بطلان شهادتهما ، فحذف ما يعبّر عن بطلان شهادتهما إيجازاً كقوله : { اضرِبْ بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت .
ومعنى { عُثِر } اطُّلِع وتَبيّن ذلك ، وأصل فعل عَثَر أنّه مصادفة رِجْلِ الماشي جسماً ناتئاً في الأرض لم يترقّبه ولم يَحْذر منه فيختلّ به اندفاعُ مَشْيه ، فقد يسقط وقد يتزلزل . ومصدره العِثَار والعُثور ، ثم استعمل في الظَفَر بشيء لم يكن مترقّباً الظفَر به على سبيل الاستعارة . وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة ، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العِثار ، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر ، وهو العثور .
ومعنى { استَحقَّا إثماً } ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به ، فقد حقّ عليهما الإثم ، أي وقع عليهما ، فالسين والتاء للتأكيد . والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله : { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } . فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضاً لأنفسهما أو لغيرهما ، أو بأن يظهر أنّهما كتما الشهادة ، أي بعضها . وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت .
وقوله { فآخران } أي رجلان آخران ، لأنّ وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدّث عنه ، والمتحدث عنه هنا { اثنان } . فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية . ومعنى يقومان مقامهما ، أي يعوّضان تلك الشهادة . فإنّ المقام هو محلّ القيام ، ثم يراد به محلّ عمل مّا ، ولو لم يكن فيه قيام ، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محلّ يقوم فيه العامل ، وذلك في العمل المهمّ . قال تعالى : { إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري } [ يونس : 71 ] . فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية . و { من } في قوله : { من الذين استحقّ عليهم } تبعيضية ، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم .
والاستحقاق كون الشيء حقيقاً بشيء آخر ، فيتعدّى إلى المفعول بنفسه ، كقوله : { استحقّا إثماً } ، وهو الشيء المستحق . وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدّى الفعل إلى المحقوق ب { على } الدالّة على الاستعلا بمعنى اللزوم له وإن كره ، كأنّهم ضمّنوه معنى وجَب كقوله تعالى : { حقيق علي أن لا أقول على الله إلاّ الحق } [ الأعراف : 105 ] . ويقال : استحقّ زيد على عمرو كذا ، أي وجب لزيد حقّ على عمرو ، فأخذه منه .
وقرأ الجمهور { استُحقّ عليهم } بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله { استُحقّ عليهم هو مستحِقّ مّا ، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة ، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغَلَبَ وارثَ الموصي بذلك . فالذين استُحقّ عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم مالُه بوجه من وجوه الإرثِ فحُرموا بَعضه . وقوله { عليهم } قائم مقام نائب فاعل { استحقّ } .
وقوله : { الأوليان } تثنية أوْلَى ، وهو الأجدر والأحقّ ، أي الأجدران بقبول قولهما . فماصْدقه هو مَاصْدق { الآخران } ومرجعه إليه فيجوز ، أن يجعل خبراً عن { آخران } ، فإنّ { آخران } لمّا وصف بجملة { يقومان مقامهما } صحّ الابتداء به ، أي فشخصان آخران هما الأوْلَيَان بقبول قولهما دون الشاهدين المتّهمين .
وإنّما عرّف باللاّم لأنّه معهود للمخاطب ذهناً لأنّ السامع إذا سمع قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقَّا إثماً } ترقّب أن يعرف من هو الأولى بقبول قوله في هذا الشأن ، فقيل له : آخران هما الأوليان بها . ويجوز أن يكون { الأوليان } مبتدأ و { آخران يقومان } خبره . وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة ، لأنّ السامع يترقّب الحكم بعد قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً } فإنّ ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما ، فكيف يكون القضاء في ذلك ، فعجّل الجواب . ويجوز أن يكون بدلاً من { آخران } أو من الضمير في { يقومان } أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هما الأوليان . ونكتة التعريف هيَ هي على الوجوه كلّها .
وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ، { الأوّلين } بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدّم والمبتدأ به . فالذين استحقّ عليهم هم أولياء الموصي حيث استحقّ الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء ، أي الورثة لولا الوصية ، وهو مجرور نعت ( للذين استحقّ عليهم ) .
وقرأ حفص عن عاصم { استحَقّ } بصيغة البناء للفاعل فيكون { الأوليان } هو فاعل { استحقّ } ، وقوله { فيقسمان بالله } تفريع على قوله { يقومان مقامهما } .
ومعنى { لشهادتنا أحقّ من شهادتهما } أنّهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذيْن عثِر على أنّهما استحقّا إثماً . ومعنى { أحقّ } أنّها الحقّ ، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة .
وقوله { وما اعتدينا } توكيد للأحقّيّة ، لأنّ الأحقّيّة راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان ، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلاً واعتداء منهما على مال مبلّغي الوصية . والمعنى : وما اعتدينا على الشاهدين في اتّهامهما بإخفاء بعض التركة .
وقوله { إنّا إذن لمنَ الظالمين } أي لو اعتدينا لكنّا ظالمَين . والمقصود منه الإشعار بأنّهما متذكّران ما يترتّب على الاعتداء والظلم ، وفي ذلك زيادة وازع .
وقد تضمّن القسم على صدق خبرهما يميناً على إثبات حقّهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحقّ مع الشاهد العرفي ، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلّغان الوصية .
والكلام في « إذن » هنا مثل الكلام في قوله : { إنّا إذن لمن الآثمين } .
والمعنى أنّه إن اختلّت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحداً أم متعدّداً . وإنّما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها ، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء ، فإنّ ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما : عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة ، وكلاهما من بني سهم ، وهما مَوْليا بُديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام . فبعض المفسّرين يذكر أنهما مَوْليا بُديل .
وبعضهم يقول : إنّ مولاه هو عمرو بن العاصي . والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أنّ له ولاء من بديل ، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين . فإن كان صاحب الحقّ واحداً حلف وحده وإن كان أصحاب الحقّ جماعة حلفوا جميعاً واستحقّوا . ولم يقل أحد أنّه إن كان صاحب الحقّ واحداً يحلف معه من ليس بمستحقّ ، ولا إن كان صاحب الحقّ ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقّون كلّهم . فالاقتصار على اثنين في أيمان الأوليين ناظر إلى قصّة سبب النزول ، فتكون الآية على هذا خاصّة بتلك القضية . ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم . وهذا القول يقتضي أنّ الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بُديل بن أبي مريم . وذلك ظاهر بعض روايات الخبر ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنّ الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذٍ يتعيّن أن تكون تشريعاً لأمثال تلك القضية ممّا يحدث في المستقبل ، فيتعيّن المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن .
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضَر إلاّ واحداً من المسلمين ، أو واحداً من غير المسلمين ، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم . وكلّ ذلك يجري على أحكامه المعروفة في الأحكام كلّها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر .