البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

{ فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثماً أي ذنباً بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع و { عثر } استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إن لم يرج ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا .

قال أبو علي : الإثم هنا هو الشيء المأخوذ لأن أخذه إثم قسمي إثماً كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة ، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى .

والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما { إنا إذاً لمن الآثمين } ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ما قيل فيه استحقا إثماً لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم .

{ فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } قرأ الحرميان والعربيان والكسائي { استحق } مبنياً للفاعل { والأوليان } مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عن أبيّ وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه ، وقرأ حمزة وأبو بكر { استُحق } مبنياً للمفعول { والأوليان } جمع الأول ، وقرأ الحسن { استحق } مبنياً للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولى فأما القراءة الأولى فقال الزمخشري { فآخران } فشاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق } عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما ، و { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما لأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل { الأوليان } ، وقيل هما بدل من الضمير في { يقومان } أو من آخران ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى .

وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع { الأوليان } على تقديرهما الأوليان ، وعلى البدل من ضمير { يقومان } وزاد أبو عليّ وجهين آخرين ، أحدهما أن يكون { الأوليان } مبتدأ ومؤخراً ، والخبر آخران يقومان مقامهما .

كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا .

والوجه الآخر أن يكون { الأوليان } مسنداً إليه { استحق } .

قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون { الأوليان } صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى .

وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : { فآخران } مبتدأ والخبر { يقومان } ويكون قد وصف بقوله من { الذين } أو يكون قد وصف بقوله { يقومان } والخبر { من الذين } ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله : { فآخران } ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل ، أي فليشهد آخران وأما مفعول { استحق } فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثم محذوف ، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهين آخرين أحدهما : أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء ، والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية .

وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله { الأوليان } باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها .

وأما { الأوليان } بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند { استحق } إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله الأوليان باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه { الأوليان } ، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال فيسوغ توجيهه ، وأجاز ذلك ابن جرير على أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم إثم الأولين ، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يرتفع { الأوليان } باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقاً حقيقة لقوله { استحقا إثماً } وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه فجعل تسورهم عليه استحقاقاً مجازاً والمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها ، قال فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل بعلى لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى .

والضمير في { مقامهما } عائد على شاهدي الزور { ومن الذين } هم ولاة الميت .

وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلاً من حرف يعني أنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من ، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله :

{ إذا اكتالوا على الناس } أي من الناس استحق عليهم الإثم أي من الناس وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد الله الرازي وابن أبي الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال ، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولاً والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى .

{ والأوليان } بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف ؛ وذلك أن الوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما .

كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنه قضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولاً لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب { الأوليان } على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير { يقومان } والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره .

وأما القراءة الثانية وهي بناء { استحق } للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى .

وقال ابن عطية ما ملخصه { الأوليان } رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى { من الذين استحق عليهم } مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليين أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت ، وتركته فجازا فيها ، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب ، أو يكون { استحق } بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى .

وقال بعضهم المفعول محذوف أي { من الذين استحق عليهم الأوليان } وصيتهما .

وأما القراءة الثالثة وهي قراءة { استحق } مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين ، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى ، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى ؛ وهذا على تفسير أن قوله : { أو آخران من غيركم } أنهم الأجانب لا أنهم الكفار ، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله : { اثنان ذوا عدل منكم } انتهى .

وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق .

قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء .

وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح .

{ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا } أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولاً وحرفا فيه وما زدنا على الحد .

وقال ابن عباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادة لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة .

قال ابن الجوزي { أحق } أصح لكفرهما وإيماننا انتهى .

{ إنا إذاً لمن الظالمين } ختما بهذه الجملة تبرياً من الظلم واستقباحاً له وناسب الظلم هنا لقولهما { وما اعتدينا } والاعتداء والظلم متقاربان وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور { بقوله لمن الآثمين } لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهما الإثم .