الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ } : مبني للمفعول ، والقائمُ مقامَ فاعِله الجارُّ بعدَه ، أي : فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ يقال : [ عَثَر الرجلُ يعثُر ] عُثوراً : إذا هَجَم على شيء لم يَطَّلِعْ عليه غيرُه ، وأعثرتُه على كذا : أطلعتُه عليه ، ومنه قولُه تعالى : { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] . قال أهلُ اللغة : " وأصلُه من " عَثْرة الرجل " وهي الوقوع ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُر بشي كان لا يَراه ، فإن عَثَر به اطِّلع عليه ونَظَر ما هو ، فقيل لكل أمر كان خَفِيّاً ثم اطُّلِع عليه : " عُثِر عليه " وقال الليث : " عَثَر يَعْثُر عُثوراً هجم على أمرٍ لم يهجم عليه غيرُه ، وعَثَر يَعْثُر عَثْرَةً وقع على شيء ، ففرَّق بين الفعلين بمصدريهما . وفَرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك فقال : " عَثَر مصدرُه العُثور ، ومعناه اطَّلع ، فأمَّا " عَثَر " في مَشْيِة ومنطقه ورأيه فالعِثارُ " والراغب جَعَل المصدرين على حَدِّ سواء فإنه قال : " عَثَر الرجلُ بالشيء يَعْثُر عُثوراً وعِيثاراً : إذا سَقَط عليه ، ويُتَجَوًَّزُ به فيمن يَطِّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه ، يقال : " عَثَرْتُ على كذا " وقوله : { وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] أي : وَقَّفْناهم عليهم من غير أَنْ طَلَبوا " .

قوله تعالى : { فَآخَرَانِ } فيه أربعةُ أوجه ، [ الأول ] : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : فالشاهدان آخران ، والفاء جواب الشرط ، دَخَلَتْ على الجملة الاسمية ، والجملةُ من قوله : { يقومان } محلِّ رفعٍ صفةً ل آخران . الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه : فليشهد آخران ، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تَقَدَّم أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدَه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله : { حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ }

[ المائدة : 106 ] . الثالث : أنه خبرٌ مقدم ، و " الأَوْلَيان " مبتدأٌ مؤخرٌ ، والتقدير : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران يَقُومان مقامَهان ذكر ذلك أبو عليّ . قال : " ويكونُ كقولك : " تميمي أنا " الرابع : أنه متبدأٌ ، وفي الخبرِ حينئذٍ احتمالات ، أحدُها : قولُه : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ } وجاز الابتداءُ به لتخصُّصِه بالوصف وهو الجملة من " يَقُومان " ، والثاني : أنَّ الخبرَ " يَقُومان " و " من الذين استحَقَّ " صفةُ المتبدأ ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها ، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به اعتمادُه على فاءِ الجزاء . وقال أبو البقاء لَمَّا حَكَى رفعَه بالابتداء : " وجازَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ لحصولِ " الفائدةِ " فإنْ عَنَى أنَّ المسوِّغَ مجردُ الفائدةِ من غيرِ اعتبارِ مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها فغيرُ مُسَلَّم الثالث : أنَّ الخبرَ قولُه : " الأَوْليَان " نقله أبو البقاء ، وقوله " يَقُومان " و " مِن الذين استَحَقَّ " كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل " آخران " ويجوزُ ان يكونَ أحدُهما صفةً والآخرُ حالاً ، وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ .

وفي هذا الوجهِ ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً ، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ

[ وكقوله ] :

وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً *** بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ

وقد فَهِمْتَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملةَ من قوله " يقومان " والجارَّ من قوله : { مِنَ الَّذينَ } : إمَّا مرفوعٌ المحلِّ صفةً ل " آخَران " أو خبرٌ عنه ، وإمَّا منصوبة على الحالِ : إمَّا من نفس " آخران " ، أو مِنَ الضمير المستكنِّ في " آخران " ويجوزُ في قولِه { مِنَ الَّذِينَ } أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ " يَقُومان " .

قوله : { اسْتَحَقَّ } قرأ الجمهورُ : " استُحِقَّ " مبنياً للمفعول ، " الأَوْليان " رفعاً ، وحفص عن عاصم : " اسْتَحَقَّ " مبنياً للفاعل ، " الأوليان " كالجماعة ، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم ، ورُوِيَتْ عن ابن كثير أيضاً ، وحمزة وأبو بكر عن عاصم : " استُحِقَّ " مبنياً للمفعول كالجماعة ، " الأَوَّلِين " جمعَ " أَوَّل " جمعَ المذكرِ السالم ، والحسن البصري : " اسْتَحَقَّ " مبنياً للفاعل ، " الأوَّلان " مرفوعاً تثنية " أَوَّل " وابن سيرين كالجماعة ، إلا أنه نصب الأوْلَيَيْن تثنيةَ " أَوْلى " وقرئ : " الأَوْلَيْنَ " بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع " أَوْلى " كالأعلَيْنَ في جمعِ " أَعْلى " ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع : قال : " هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعراباً " قلت : ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ ، فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب ، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به على الإِعراب فإنه خادِمٌ لها .

فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع " الأَوْلَيان " فيها من اوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره " آخران " تقديره : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران ، وقد تقدَّم شرحُ هذا . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هما الأَوْلَيان ، كأنَّ سائلاً سأل فقال : " مَنِ الآخران " ؟ فقيل : هما الأَوْلَيان . الثالث : أنه بدلٌ من " آخران " وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه ، نحو : " جاء زيدٌ أخوك " وهذا عندهمْ ضعيفٌ لأنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ . الرابع : أنه عطفُ بيان ل " آخران " بَيَّن الآخَرَيْن بالأَوْلَيَيْنِ . فإن قلت : شرطُ عطفِ البيان أن يكونَ التابعُ والمتبوعُ متفقين في التعرفِ والتنكيرِ ، على أنَّ الجمهورَ على عدمِ جريانِه في النكرةِ خلافاً أبي علي ، و " آخران " نكرةٌ ، و " الأَوْلَيَان " معرفةٌ . قلت : هذا سؤال صحيح ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ويلزم الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا الأخفش فإنه يُجيز اَنْ يكونَ " الأَوْلَيان " صفةً ل " آخران " بما سأقرره عنه عند تعرُّضي لهذا الوجهِ ، والنعت المنعوت يُشترط فيهما التوافقُ ، فإذا جاز في النعت فَلْيَجُزْ فيما هو شبيه به ، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت .

وأمَّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ الآية : 97 ] عطفُ بيان لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } و { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } نكرةٌ لكنها لَم‍َّا تخصَّصَتْ بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة ، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه ، وكذا " آخَران " قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدَّ من " آياتٌ بيناتٌ " من حيث وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة . الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ " يَقُومان " .

السادس : أنه صفةٌ ل " آخران " ، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليّ : " وأجازَ أبو الحسن فيها شيئاً آخرَ ، وهو أن يكونَ " الأَوْلَيان " صفةً ل " آخران " لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّص ، فَمِنْ أجلِ وصفِه وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف " قال الشيخ : " وهذا ضعيفٌ لاستلزامِه هَدْمَ ما كادوا أن يُجْمعوا عليه من أنَّ النكرةَ لا تُوصف بالمعرفةِ ، ولا العكسِ " قلت : لا شكَّ أنَّ تخالفَهما في التعريفِ والتنكيرِ ضعيفٌ ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضعَ ، فمنها محكاه الخليل : " مَرَرْتُ بالرجلِ خيرٍ منك " في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ ومنها { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] على القولِ بأنَّ " غير " صفةُ " الذين أنعمت عليهم " وقوله :

ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني *** فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني

وقولُه تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] ، على أنَّ " يَسُبُّني " و " نَسْلَخُ " صفتان لِما قبلَها فإنَّ الجملَ نكراتٌ ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه ، فإنها تُؤَوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة ، وما نحن فيه جعلنا النكرةَ فيه كالمعرفةِ ، إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المُثُلِ باعتبار أنَّ " الأَوْلَيَيْنِ " لَمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان قَرُبا من النكرةِ فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي ، فصار في ذلك مسوِّغان : قربُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ ، وقربُ المعرفةِ من النكرة بالإِبهام ، ويدلُّ لِما قلتُه ما قال أبو البقاء : " والخامسُ أن يكون صفة ل " آخران " لأنه وإنْ كان نكرةً قد وُصِفَ والأَوْلَيان لم يَقْصِدْ بهما قصدَ اثنين بأعيانِهما " .

السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ب " استُحِقَّ " إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً . واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين ، فقال : مكي : " تقديرُه : استُحِقَ عليهم إثمُ الأَوْلَيَيْن " وكذا أبو البقاء وقد سبَقَهما إلى هذا التقديرِ ابنُ جرير الطبري وقَدَّره الزمخشري فقال : " مِن الذين استُحِقَّ عليهم انتداب الأَوْلَيَيْن منهم للشهادةِ لاطِّلاعِهم على حقيقةِ الحال " ، ومِمَّن ذهبَ إلى ارتفاع " الأَوْلَيَيْنِ " ب " استُحِقَّ " أبو علي الفارسي ثم منَعه ، قال : " لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنما يكون الوصية أو شيئاً منها ، وأمَّا الأَوْلَيان بالميتِ فلا يجوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّا فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما " قلت : إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ فإنَّ الأَوْلَيَيْنِ لم يستحقَهما أحدٌ كما ذكر ، ولكنْ يجوزُ أَنْ يُسْنَدَ " استُحِقَّ " إليهما بتأويلِ حذفِ المضافِ المتقدم .

وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حَمَل الناسَ على إضمار ذلك المضافِ ، وتقديرُه الزمخشري ب " انتداب الأوليين " أحسنُ من تقدير غيرِه ، فإنَ المعنى يُساعِدُه ، وأمَّا إضمارُ " الإِثم " فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ .

وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ " الأَوْلَيان " ب " استُحِقَّ " أيضاً ، ولكنْ ظاهرُ عبارتِه أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكالِ الفارسي المتقدم فاحتالَ في الجوابِ عنه وهذا نَصُّه ، قال ما ملخصُه : إنه " حُمِل " استُحِقَّ " هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله : { اسْتَحَقَّآ إِثْماً } وإنما معناه أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دينهِ فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً ، والمعنى : من الجماعة التي غابت وكان مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها ، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأَمْرِ الأَوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة ، فبُنِي الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً ، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعدِّي الفعلِ ب " على " لَمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ هَيَّأَتْه الحالُ ، ولا يُقال : استحَقَّ منه أو فيه إلا في الاستحقاقِ الحقيقي على وجههِ ، وأمَّا " استحَقَّ عليه " فبالحملِ والغلَبِة والاستحقاقِ المستعارِ " انتهى ، فقد أسند " استحق " إلى الأوْليان " من غيرِ تقديرِ مضافٍ متأوِّلاً له بما ذَكَر ، واحتملتُ طولَ عبارتِه لتتَّضحَ .

واعلم أنَّ مرفوعَ " استُحِقَّ " في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو إسنادُه إلى " الأَوْلَيان " - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً ، واختلفت عباراتُهم ، فيه ، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري : أنه ضميرُ الإِثم ، والإِثمُ قد تقدَّم في قوله : { اسْتَحَقَّآ إِثْماً } وقال الفارسي والحوفي ايضاً : " استحق هو الإِيصاءُ أو الوصيةُ " قالت : إضمارُ الوصية مُشْكِلٌ ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضميرِ المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا في ضرورة ، ويونس لا يَخُصُّه بها ، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمرا لفظَ الوصية لأنَّ ذلك حُذِفَ ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ . وقال النحاس مستحسناً لإِضمارِ الإِيصاء : " وهذا أحسنُ ما قيل فيه ؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ " يعني أنه لا يقولُ إنَّ " على " بمعنى " في " ، ولا بمعنى " مِنْ " كما قيل بهما ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإِعرابِ والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال : " ف " آخران " أي : فشاهدان آخَران يَقُومان مقامَهما من الذين استُحِقَّ عليهم أي : [ من الذين ] استُحِقَّ عليهم الإِثمُ ، ومعناه : من الذين جُنِي عليهم وهم أهلُ الميتِ وعشيرتُه والأَوْلَيان الأَحقَّان بالشهادة لقرابتِهما ومعرفتِهما ، وارتفاعُهما على : " هما الأَوْلَيان " كأنه قيل : ومَنْ هما ؟ فقيل : والأَوْلَيان ، وقيل : هما بدلٌ من الضميرِ في " يَقُومان " أو من " آخران " ويجوزُ أَنْ يرتفِعَا ب " استُحِقَّ " أي : من الذين استُحِقَّ عليهم انتدابُ الأَوْلَيَيْنِ منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال " .

وقوله { عَلَيْهِمُ } : في " على " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها على بابها ، قال ابو البقاء : " كقولك : " وَجَبَ عليه الاثمُ " وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا أَضْمر الإِيصاء بَقَّاها على بابها ، واستحسن ذلك . والثاني : أنها بمعنى " في " أي : استُحِقَّ فيهم الإِثمُ فوقَعَتْ " على " موقعَ " في " كما تقعُ " في " موقعَها كقوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] أي : على جذوعِ ، وكقولِه :

بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ *** يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ

أي : على سَرْحةٍ . وقَدَّره أبو البقاء فقال : " أي استُحِقَّ فيهم الوصية " والثالث : أنها بمعنى " من " أي : استُحِقَّ منهم الإِثمُ ، ومثلُه قولُه تعالى : { إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ }

[ المطففين : 2 ] أي : من الناسِ . وقَدَّره أبو البقاء فقال : " اي استُحِقَّ منهما الأوْلَيان ، فحين جَعَلها بمعنى " في " قَدَّر " استُحِقَّ " مسنداً للوصية ، وحين جعلها بمعنى " من " قَدَّره مُسْنداً ل " الأَوْلَيان " وكان لَمَّا ذَكَر القائمَ مقامَ الفاعلِ لم يذكر إلا ضميرَ الإِثم والأوليان . وأجاز بعضُهم أَنْ يُسْندَ " استُحِقَّ " إلى ضمير المال أي : استُحِقَّ عليهم المالُ الموروث ، وهو قريبٌ .

فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع " استُحِقَّ خمسةَ أوجه ، أحدُها : " الأَوْلَيان " ، الثاني : ضميرُ الإِيصاء ، الثالث : ضيرُ الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبلَه وتقدَّم إشكالُه ، الرابع : أنه ضميرُ الإِثمِ ، الخامس : انه ضميرُ المال ، ولم أَرَهم أجازوا أن يكونَ " عليهم " هو القائمَ مقامَ الفاعلِ نحو : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً .

وأمَّا قراءةُ حفص ف { الأَوْلَيان } مرفوعٌ ب " استُحَقَّ " ومفعولُه محذوفٌ ، قَدَّره بعضهم " وصيتَهما " وقَدَّره الزمخشري ب " أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة " فإنه قال : " معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة ، ويُظْهِروا بها كذبَ الكاذبين " وقال ابنُ عطية : " الأَوْلَيان " رفعٌ ب " اسَتَحَقَّ " وذلك أن يكون المعنى : من الذين استَحَقَّ عليهم مالَهم وتَرِكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي : صَيَّرهما عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها ، أو يكونُ المعنى : مِن الذين حَقَّ عليهم أَنْ يكونَ الأَوْلَيان منهم ، فاستَحَقَّ بمعنى حَقَّ كاستعجب وعجب ، أو يكون استحقَّ بمعنى سعى واستوجب فالمعنى : من القوم الذين حَضَر أَوْلَيان منهم فاستَحَقَّا عليهم أي : استحقا لهم وسَعَيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقُرْبانهما " قال الشيخ - بعد أَنْ حكى عن الزمخشري وأبي محمد ما قَدَّمْتُه عنهما - : " وقال بعضُهم : المفعولُ محذوفٌ تقديرُه : الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان وصيتَهما " قلت : وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولَي أبي القاسم وأبي محمد وقد بَيَّنْتُهما ما هما فهو عند الزمخشري قولُه : " أَنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشهادة " وعند ابن عطية هو قولُه : { ما لَهم وتَرِكَتَهم } ، فقولُه : " وقال بعضهم : المفعولُ محذوفٌ " يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً .

وممن ذهبَ إلى أن " استَحَقَّ " بمعنى " حَقَّ " المجردِ الواحدي فإنه قال : واستحقَّ هنا بمعنى حَقَّ ، أي وَجَبَ ، والمعنى : فآخران من الذين وَجَبَ عليهم الإِيصاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه " وهذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ .

وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ " استُحِقَّ " ضميرُ الإِيصاء أو الوصية أو المال أو الإِثم حَسْبما تقدَّم ، وأمَّا " الأَوَّلين " فجمعُ " أوّل " المقابِل ل " آخِر " وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجرورٌ صفةً ل " الذين " . الثاني : أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً . الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ في " عليهم " ، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف ، نَقَل هذين الوجهين الأخيرين مكي الرابع : أنه منصوبٌ على المدح ، ذكره الزمخشري ، قال : " ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها " ، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّة بالتقدُّمِ على الأجابِ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو آخرَان مِنْ غيرِكم أنَّهما من الأجانبِ لا من الكفارِ . وقال الواحدي : " وتقديرُه مِنَ الأَوَّلين الذين استُحِقَّ عليهم الإِيصاءُ أو الإِثم ، وإنما قيل لهم " الأَوَّلين " من حيث كانوا أَوَّلِين في الذِّكْرِ ، ألا ترى أنه قد تقدَّم : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وكذلك { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ذُكِرا في اللفظ قبل قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } وكان ابنُ عباس يختارُ هذه القراءةَ ويقول : " أرأيت إن كان الأَوْلَيان صغيرين كيف يَقُومان مقامَهما " ؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقامَ الحانثين .

ونحا ابن عطية هذا المنحى قال : " معناه من القوم الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهم أي : غُلِبوا عليه ، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي : في الذكر في هذه الآية " .

وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان ب " استَحَقَّ " فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل . قال الزمخشري : و " يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي " ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلان ، والمرادُ بهما الاثنان المتقدِّمان في الذكر . وهذه القراءةُ كقراءةِ حفص ، فيُقَدَّر فيها ما ذُكِر ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ .

وأما قراءة ابن سيرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر ، لأنه : إمَّا على البدل وإمَّا على الوصف بجمع ، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك . وأمَّا قراءة " الأَوْلَيْن " كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم يَعْزُها ، قال : " ويُقْرأ " الأَوْلَين " جمعَ الأَوْلَى ، وإعرابه كإعراب الأَوْلَين " يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا .

قوله : " فيُقْسِمان " نسقٌ على " يَقُومان " والسبيَّةُ فيها ظاهرةٌ . و " لَشهادتُنا أحقُّ " : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله : " فيُقْسِمان " و " ذلك أَدْنَى " لامحلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها ، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيلِه ، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحكام أقربُ إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي . وقيل المشارُ إليه الحَبْس بعد الصلاة ، وقيل : تحليفُ الشاهدين . و " أَنْ يأتوا " أصلُه إلى أن يأتوا . وقَدَّره أبو البقاء ب " من " أيضاً ، أي : أَدْنَى مَنْ أَنْ يأتُوا . وقَدَّره مكي بالباء أي : بأَنْ يأتُوا ، وليسا بواضحين ، ثم حَذَفَ حرفَ الجر فَنَشَأ الخلافُ المشهور . و " على وجهها " متعلقٌ ب " يأتُوا " . وقيل : في محلِّ نصبٍ على الحال منها ، وقَدَّره أبو البقاء ب " محقّقة وصحيحة " وهو تفسيرُ معنى ؛ لِما عرفت غير مرة من أنّ الأكوانَ المقيدة لا تُقَدَّر في مثله .