قوله تعالى : " فإنْ عُثِرَ " : مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده ، أي : فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ : عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً : إذا هَجَمَ على شيءٍ ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه ؛ ومنه قوله تعالى : { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] ، قال أهلُ اللغة : وأصلُه من " عَثْرَةِ الرجْلِ " وهي الوقوعُ ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ ، فإن عثر به ، اطُّلَعَ عليه ، ونظر ما هو ، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا ، ثم اطُّلِعَ عليه : " عُثِرَ عَلَيْه " ، وقال الليْثُ : " عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه ، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء " ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما ، وفرَّق أبو البقاء{[12833]} بينهما بغير ذلك ؛ فقال : " عَثَرَ مصْدرُه العُثُور ، ومعناه اطَّلَعَ ، فأمَّا " عَثَرَ " في مَشْيهِ ، ومنْطِقِهِ ، ورأيه ، فالعِثَارُ " ، والراغب{[12834]} جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء ؛ فإنه قال : " عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً : إذا سقطَ عليه ، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه ، يقال : " عَثَرْتُ على كذا " ، وقوله : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] ، أي : وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا " .
قوله تعالى : " فآخَرَانِ " فيه أربعةُ أوجه :
الأول : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ ، تقديره : فالشَّاهدانِ آخرانِ ، والفاء جوابُ الشرط ، دخلت على الجملة الاسمية ، والجملةُ من قوله : " يَقُومَانِ " في محلِّ رفعٍ صفةً ل " آخَرَانِ " .
الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ ، تقديرُه : فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ ، ذكره مكيٌّ{[12835]} وأبو البقاء{[12836]} ، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله : { حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } [ المائدة : 106 ] .
الثالث : أن خبرٌ مقدَّم ، و " الأوْلَيَانِ " مبتدأٌ مؤخَّرٌ ، والتقديرُ : فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ ، قال : " ويكُونُ كقولك : تَميميٌّ أنَا " .
الرابع : أنه مبتدأٌ ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ :
أحدها : قوله : { مِنَ الَّذينَ اسْتَحَقَّ } ، وجاز الابتداءُ به ؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ ، وهو الجملة من " يَقُومَانِ " .
والثاني : أنَّ الخبر " يَقُومَانِ " و { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ } صفةُ المبتدأ ، ولا يَضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها ، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به : اعتمادُه على فاءِ الجزاء ، وقال أبو البقاء{[12837]} ، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء : " وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة ؛ لحصولِ الفائدةِ " ، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها ، فغيرُ مُسَلَّم .
الثالث : أنَّ الخبرَ قوله : " الأوْلَيَانِ " نقله أبو البقاء{[12838]} ، وقوله " يَقُومَانِ " و { مِنَ الَّذينَ اسْتَحَقَّ } كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل " آخَرَانِ " ، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً ، والآخرُ حالاً ، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها ، والنكرةَ حديثاً ، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ ؛ كقوله : [ الوافر ]
. . . *** يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ{[12839]}
وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخَضَارِمِ{[12840]}
وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله " يَقُومَانِ " والجارَّ من قوله : " مِنَ الَّذِينَ " : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً ل " آخَرَانِ " أو خبرٌ عنه ، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ : إمَّا من نَفْسِ " آخَرَانِ " ، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في " آخَرَانِ " ، ويجوزُ في قوله " مِنَ الَّذِين " أنْ يكون حالاً من فاعلِ " يَقُومَانِ " .
قوله : " استحقّ " قرأ الجمهور " استُحِقَّ " {[12841]} مبنيًّا للمفعول ، " الأولَيَانِ " رفعاً ، وقرأ حفص عن عاصم{[12842]} : " اسْتَحَقَّ " مبنيًّا للفاعل ، " الأوليَانِ " كالجماعة ، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً ، وحمزة{[12843]} وأبو بكرٍ عن عاصمٍ : " استُحِقَّ " مبنيًّا للمفعول كالجماعة ، " الأوَّلِينَ " جمع " أوَّل " جمع المذكر السَّالِم ، والحسن{[12844]} البصريّ : " اسْتَحَقَّ " مبنيًّا للفاعل ، و " الأوَّلانِ " مرفوعاً تثنية " أوَّل " ، وابن سيرين{[12845]} كالجماعة ، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية " أوْلَى " ، وقرئ : " الأوْلَيْنَ " بسكون الواو وفتح اللام ، وهو جمع " أوْلَى " كالأعْلَيْنَ في جمعِ " أعْلَى " ، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج{[12846]} إلى هذا الموضوع ، قال : " هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً " . قال شهاب الدين : ولعَمْرِي ، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب ، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن تَلْخِيصٍ ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية ؛ لنستعين به على الإعْراب ؛ فإنه خادمٌ لها .
فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ ، فرفعُ " الأوْلَيَان " فيها أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره " آخرَانِ " ، تقديره : فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ ، وتقدَّم شرحُ هذا .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هما الأوْليانِ ؛ كأنَّ سائلاً يسأل فقال : " من الآخَرَانِ " ؟ فقيل : هما الأوْلَيَانِ .
الثالث : أنه بدلٌ من " آخَرَان " ، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه ؛ نحو : " جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ " وهذا عندهم ضعيفٌ ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ .
الرابع : أنه عطفُ بيان ل " آخَرَانِ " بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ ، فإن قلت : شرطُ عطفِ البيانِ : أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ ؛ خلافاً لأبي عَليّ ، و " آخَرَانِ " نكرةٌ ، و " الأوْلَيَانِ " معرفةٌ ، قُلْتُ : هذا سؤالٌ صحيحٌ ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا الأخفشُ{[12847]} فإنه يُجيزُ أنْ يكون " الأوْلَيَانِ " صفةً ل " آخَرَانِ " بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ ، فإذا جاز في النعْتِ ، جاز فيما هو شبيهٌ به ؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت ، وأمَّا الزمخشريُّ ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] عطفُ بيان ؛ لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ، و " آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ " نكرةٌ ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ ، قَرُبَتْ من المعرفة ، كما تقدَّم عنه في موضعه ، وكذا " آخَرَانِ " قد وُصِفَ بصفَتيْنِ ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من " آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ " ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة .
الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ " يَقُومَانِ " .
السادس : أنه صفةٌ ل " آخَرَانِ " ، أجازَ ذلك الأخفشُ{[12848]} ، وقال أبو عَلِيٍّ : " وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ ، وهو أن يكُون " الأوْلَيَانِ " صفةً ل " آخَرَانِ " ؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ ، تخصَّصَ ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه ، وُصِفَ بوصف المعارف " ، قال أبو حيان{[12849]} : " وهذا ضعيفٌ ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه ؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ ، ولا العَكْس " ، قلتُ : لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ ، فمنها ما حكاه الخليلُ : " مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ " في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ ، ومنها { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] على القولِ بأنَّ " غَيْر " صفةُ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وقوله : [ الكامل ]
وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي{[12850]}
وقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 73 ] ، على أنَّ " يَسُبُّنِي " و " نَسْلَخُ " صفتان لما قبلهما ؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه ، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة ، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ ؛ فاعتبار أنَّ " الأوْلَيَيْنِ " لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان ، قَرُبَا من النكرةِ ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي ؛ فصار في ذلك مسوِّغان : قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام ؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء{[12851]} : " والخَامِسُ أن يكون صفة ل " آخَرَانِ " ؛ لأنه وإنْ كان نكرةً ، فقد وُصِفَ ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما " .
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب " اسْتُحِقَّ " ، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا ، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً ، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ ، فقال مكي{[12852]} : " تقديرُه : استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ " ، وكذا أبو البقاء{[12853]} وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ{[12854]} فقال : " مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ " ، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ " الأوْلَيَانِ " ب " اسْتُحِقَّ " أبو عليٍّ الفارسِيُّ ، ثم منعه ؛ قال : " لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها ، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا ، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما " ، قلتُ : إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر ، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ " اسْتُحِقَّ " إليهما ؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم ، وهذا [ الذي ] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب " انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ " أحسنُ من تقدير غيره ؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ ، وأمَّا إضمارُ " الإثْم " فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ .
وأجازَ ابن عطيَّة{[12855]} أن يرتفعَ " الأوْلَيَانِ " ب " اسْتُحِقَّ " أيضاً ، ولكن ظاهرُ عبارته ؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً ؛ فإنه استشعر باستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم ، فاحتالَ في الجواب عنه ، وهذا نَصُّه ، قال ما ملخَّصُه : إنَّه " حُمِلَ " اسْتُحِقَّ " هنا على الاستعارةِ ؛ فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً ؛ لقوله : " اسْتَحَقَّا إثْماً " ، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعدمه ؛ لقرابته أو أهل دينه ؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقاً - مجازَاً ، والمعنى : من الجماعة التي غابت ، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها ، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصِي ، استحقَّت هذه الحالَ ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل الدِّين والولاية ، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة ، فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً ، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعدي الفعلِ ب " عَلَى " لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ ، هَيَّأتْهُ الحالُ ، ولا يُقال : اسْتَحَقَّ منه أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ ، وأمَّا " اسْتَحَقَّ عليْهِ " فبالحَمْلِ والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ " . انتهى ، فقد أسند " اسْتَحَقَّ " إلى " الأوليان " من غير تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذكر ، واحتملتُ طول عبارته ؛ لتتَّضِحَ .
واعلم أنَّ مرفوع " اسْتُحِقَّ " في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غيرَ هذا الوجهِ ، وهو إسنادُه إلى " الأوْليانِ " - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أو سياقاً ، واختلفت عباراتُهم فيه ، فقال الفارسيُّ ، والحُوفيُّ ، وأبو البقاء{[12856]} والزمخشريُّ : إنه ضميرُ الإثْمِ ، والإثمُ قد تقدَّمَ في قوله : " اسْتَحَقَّا إثْماً " ، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضاً : " اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو الوصيَّةُ " قال شهاب الدين{[12857]} : إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى ضمير المؤنَّثِ مطلقاً ، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة ، ويُونُسُ لا يَخُصُّه بها ، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة ؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ ، وقال النحَّاس مستحْسِناً لإضمارِ الإيصَاءِ : " وهذا أحسنُ ما قِيلَ فيه ؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلاً من حرفٍ " ، يعني أنه لا يقُول : إنَّ " عَلَى " بمعنى " فِي " ، ولا بمعنى " مِنْ " كما قيل بهما ، وسيأتي ذلك - إن شاء الله تعالى - .
وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ ، فقال : " ف " آخَرَانِ " ، أي : فشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم ، أي : استُحِقَّ عليْهِمُ الإثمُ ، ومعناه : مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ ، وهم أهلُ الميِّتِ وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابتَهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا ، وارتفاعُهُمَا على : " هُمَا الأوْلَيَانِ " ؛ كأنه قيل : ومَنْ هُمَا ؟ فقيل : الأوْلَيَانِ ، وقيل : هما بدلٌ من الضَّمير في " يَقُومَانِ " أو من " آخَرَانِ " ، ويجوزُ أنْ يرتفِعَا ب " اسْتُحِقَّ " ، أي : من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة ؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ " .
وقوله " عَلَيْهِم " : في " عَلَى " ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها على بابها ، قال أبو البقاء{[12858]} : " كقولك : وَجَبَ عليهم الإثْمُ " ، وقد تقدَّم عن النحَّاس ؛ أنه لمَّا أضْمَرَ الإيصاءَ ، بَقَّاها على بابها ، واستحْسَنَ ذلك .
والثاني : أنها بمعنى " فِي " أي : استُحِقَّ فيهم الإثمُ ، فوقَعَتْ " عَلَى " موقع " فِي " كما تقعُ " فِي " موقعها ؛ كقوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] أي : على جُذُوعِ ، وكقوله : [ الكامل ]
بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ *** يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ{[12859]}
أي : على سَرْحةٍ ، وقدَّره أبو البقاء فقال{[12860]} : " أي : استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ " .
والثالث : أنها بمعنى " مِنْ " أي : استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ ؛ ومثلُه قولُه تعالى : { إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ } [ المطففين : 2 ] أي : مِنَ الناس ، وقدَّره أبو البقاء{[12861]} فقال : " أي : استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ " فحينَ جعلها بمعنى " فِي " قدَّر " اسْتُحِقَّ " مُسْنَداً للوصية ؛ وحين جعلها بمعنى " مِنْ " ، قدَّره مُسْنِداً ل " الأوْلَيَانِ " ، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ ، لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و " الأوْلَيَانِ " ، وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ " اسْتُحِقَّ " إلى ضمير المالِ ، أي : اسْتُحِقَّ عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ ، وهو قريبٌ .
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ " اسْتُحِقَّ " خمسة أوجه :
والثالث : ضميرُ الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدَّم إشكالُه .
والخامس : أنه ضميرُ المالِ ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون " عَلَيْهِم " هو القائمَ مقامَ الفاعلِ ؛ نحو : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً .
وأمَّا قراءةُ حَفْص ف " الأوْلَيَانِ " مرفوعٌ ب " اسْتَحَقَّ " ومفعولُه محذوفٌ ، قدَّره بعضهم " وصِيَّتَهُمَا " ، وقدَّره الزمخشريُّ{[12862]} ب " أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة " ؛ فإنه قال : " معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة : أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة ، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ " ، وقال ابنُ عطيَّة{[12863]} : " الأوْلَيَانِ " رفعٌ ب " اسْتَحَقَّ " ، وذلك أن يكون المعنى : مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ ، أي : صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ ، فَخَانَا ، وجَارَا فيها ، أو يكونُ المعنى : من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم ، فاستَحَقَّ بمعنى : حَقَّ ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ ، أو يكون استحقَّ بمعنى : سَعَى واستوجب ، فالمعنى : من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ ، فاستَحَقَّا عليهم ، أي : استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه ، واستوجَبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا ، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما - : " وقال بعضُهم : المفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا " ، قال شهاب الدين : وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة ، وقد بَيِّنْتُهما ما هما ، فهو عند الزمخشريِّ قوله : " أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة " ، وعند ابن عطيَّة هو قوله : " مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ " ، فقوله : " وقال بعضهم : المفعولُ محذوفٌ " يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً ، وممن ذهبَ إلى أن " اسْتَحَقَّ " بمعنى " حَقَّ " المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال : " واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ ، أي : وَجَبَ ، والمعنى : فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم ، وهم وَرَثَتُه " وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه ، وهو ظاهرٌ .
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ ، فمرفوع " استُحِقَّ " ضميرُ الإيصَاءِ ، أو الوصيةِ ، أو المالِ ، أو الإثمِ ، حَسْبما تقدَّم ، وأمَّا " الأوَّلَيْنِ " فجمعُ " أوَّل " المقابل ل " آخِر " ، وفيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مجرورٌ صفةً ل " الَّذين " .
الثاني : أنه بدلٌ منه ، وهو قليلٌ ؛ لكونه مشتقًّا .
الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ في " عَلَيْهم " ، وحسَّنَه هنا ، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف ، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ{[12864]} .
الرابع : أنه منصوبٌ على المَدْح ، ذكره الزمخشريُّ{[12865]} ، قال : " ومعنى الأوَّليَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة ؛ لكونهم أحَقَّ بها " ، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب ؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ .
وقال الواحديُّ : " وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ ، وإنما قيل لهم " الأوَّلِينَ " من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم : { يِا أيُّهَا الذين آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وكذلك { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله : { أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْركُمْ } ، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة ، ويقول : " أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ ، كيف يَقُومَانِ مقامهما " ؟ أراد : أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ ، ونحا ابن عطية{[12866]} هذا المنحَى قال : " معناه : من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ ، أي : غُلِبُوا عليه ، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون ، أي : في الذكْرِ في هذه الآية " .
وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب " استَحَقَّ " فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل ، قال الزمخشريُّ{[12867]} : " ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي " ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ ؛ وهذه القراءةُ كقراءةِ حَفْصٍ ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ .
وأما قراءة ابن سيرينَ ، فانتصابُها على المَدْحِ ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ ؛ لأنه : إمَّا على البدل ، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى ، فتعذر فيها ذلك ، وأمَّا قراءة " الأوْلَيْنَ " كالأعلَيْنَ ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها ، قال{[12868]} : " ويُقْرَأ " الأوْلَيْنَ " جمع الأوْلَى ، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ " يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدَّم أن فيها أربعةَ أوجه ، وهي جارية هنا .
قوله : " فَيُقْسِمَانِ " نسقٌ على " يَقُومَانِ " والسببيَّةُ ظاهرٌة ، و " لشَهَادَتُنَا أحَقُّ " : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله : " فَيُقْسِمَانِ " .
ومعنى الآية : فإن حصل العُثُور ، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة ، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة ، أو خِيَانَة في المَالِ ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت ، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين ، وكذبهما وتَبْدِيلهما ، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا ، وهو المُراد بقوله : { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } ، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ ، قال ابنُ الخطيب{[12869]} : وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ : وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك ؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ ، فإن أخَذَ مال غيره ، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به ، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ{[12870]} بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال ، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن :
الأول : معنى الأوليان : الأقْرَبَان إلى الميِّت .
الثاني : يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة ، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت ؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء ، وهما أنْكَرَا ذلك ، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما ؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئاً من مال الميِّت ، وقال : إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك ، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي ، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه ، وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً ؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه .
اختلفوا في كَيْفِيَّة ظُهُور الإنَاء ، فَرَوَى سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ : أنه وُجِدَ بمَكَّةَ ، فقالوا : إنَّا اشْتَرَيْنَاه من تَمِيمٍ وعَدِيٍّ ، وقيل : لما طَالَتِ المُدَّةُ أظهرُوهُ ، فبلغ ذلك بني سَهْمٍ فَطَلَبُوهُمَا ، فقالا : إنَّا كنا قد اشْتَرَيْنَاه منه ، فقالُوا : ألم نَقُل لكم هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شيئاً من مَتاعِهِ ، فَقُلْتُمَا : لا ، قالا : لم يَكُنْ عندنا بيِّنةٌ ، فكرهنا أن نُقِرَّ لَكُم بِهِ ، فكَتَمْنَا لذلك ، فرفَعُوهُمَا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانُ مَقَامَهُمَا }{[12871]} الآية ، فقام عَمْرُو بنُ العَاصِ والمطَّلِبُ بن أبي وَداعة السَّهْمِيَّان ، فحلفا باللَّهِ بعد العَصْرِ ، فَرَفَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإنَاءَ لَهُما ، وإلى أوْلِيَاء الميِّتِ ، فكان تَمِيمٌ الداري يقول بعدما أسْلَمَ : صدقَ اللَّهُ ورسُولُه أنا أخَذْتُ فأنَا أتُوبُ إلى اللَّه تعالى .
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّهُ بقيت تلك الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري ، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ بذلك ، فقال : حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي ، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا الثَّمنَ ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه ، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى ، ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت{[12872]} ، فكذلك قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ } ، أي : ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ ، أجدر وأحْرَى أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها ، وأدْنَى معناه : أقْرَبُ إلى الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت { أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على المُدَّعِي ، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم ، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا ، فلا يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ ، " واتَّقُوا اللَّهَ " : أنْ تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً ، أو تَخُونُوا أمَانَةً ، " واسْمَعُوا " : الموعظة ، { واللَّهُ لا يَهْدِي القومَ الفَاسِقين } ، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ .
روى الواحدي - رحمه الله - في " البَسِيطِ " {[12873]} ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قال : هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ من الأحْكَامِ . ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة .