في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه سورة مكية - كسورة الأنعام - موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي . . العقيدة . . ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة !

إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة ، وذات ملامح متميزة ، وذات منهج خاص ، وذات أسلوب معين ، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة .

إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة ، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع ، وتحقيق هذه الغاية .

إن الشأن في سور القرآن - من هذه الوجهة - كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة . . كلهم إنسان ، وكلهم له خصائص الإنسانية ، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني . . ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع . نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح ، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة !

هكذا عدت أتصور سور القرآن . وهكذا عدت أحسها ، وهكذا عدت أتعامل معها . بعد طول الصحبة ، وطول الألفة ، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته ، وملامحه وسماته !

وأنا أجد في سور القرآن - تبعا لهذا - وفرة بسبب تنوع النماذج ، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق ؛ ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع ، والاتجاهات والمطالع !

إنها أصدقاء . . كلها صديق . . وكلها أليف . . وكلها حبيب . . وكلها ممتع . . وكلها يجد القلب عنده ألواناً من الاهتمامات طريفة ، وألواناً من المتاع جديدة ، وألواناً من الإيقاعات ، وألواناً من المؤثرات ، تجهل لها مذاقاً خاصاً ، وجواً متفرداً .

ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة . . رحلة في عوالم ومشاهد ، ورؤى وحقائق ، وتقريرات وموحيات ، وغوص في أعماق النفوس ، واستجلاء لمشاهد الوجود . . ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة .

إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة . وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة . . ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها ؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها ؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها - وكل جاهلية أخرى كذلك - مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق ؛ وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالاً وتفصيلاً ونحن نقدم السورة ونستعرضها - في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضاً - ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف . . بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج ، وتسلك ذلك الطريق . . نجد سورة الأعراف - وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك - تأخذ طريقاً آخر ، وتعرض موضوعها في مجال آخر . . إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري . . في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى ، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها . . وفي هذا المدى المتطاول تعرض " موكب الإيمان " من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - [ ص ] - تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ . يواجه بها البشرية جيلاً بعد جيل ، وقبيلاً بعد قبيل . . ويرسم سياق السورة في تتابعه : كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى ؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته ؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله ؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة . .

إنها رحلة طويلة طويلة . . ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة ، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة ، في الطريق المرسوم . ملامحه واضحة ، ومعالمه قائمة ، ومبدؤه معلوم ، ونهايته مرسومة . . والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة . ثم تقطعه راجعة . . إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى . .

لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء ، ممثلة في شخصين اثنين . . آدم وزوجه . . أبوي البشر . . وانطلق معهما الشيطان . مأذونا من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذاً عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك . ومبتلي كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ؛ ليأخذوا عهد الله بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة ؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله ، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم !

انطلقت البشرية من هناك . . من عند ربها سبحانه . . انطلقت إلى الأرض . تعمل وتسعى ، وتكد وتشقى ، وتصلح وتفسد ، وتعمر وتخرب ، وتتنافس وتتقاتل ، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد . . ثم ها هي ذي تؤوب ! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال . . ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة . . من ورد وشوك . ومن غال ورخيص ، ومن ثمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات . ها هي ذي تعود في أصيل اليوم . . فقد انطلقت في مطلعه ! . . وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال - أيا كانت هذه الأحمال - ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها . تظلع في الطريق ، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير . حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان ، ووقف يرتقب في خشية ووجل . . إن كل فرد قد عاد بحصيلته فرداً . . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ، ويلقى جزاءه . . ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية ، فوجاً فوجاً . إلى جنة أو إلى نار . حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين . فقد كانوا هنالك في هذه الأرض مغتربين : ( كمابدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون ) . .

وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل . معارك الهدى والضلال . معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين ، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين . ويعرض الصراع المتكرر ؛ والمصائر المتشابهة . وتتجلي صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها ؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها . وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين . حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير . . وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة . فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة ! كلمة تعقيب . للإنذار والتذكير . . ثم يمضي .

إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهاباً وإياباً . تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية ، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول . . حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى . . وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام - وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود - وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام ، واضح التميز ، مختلف الحدود .

ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين . فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع . وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة ؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع ، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع . . إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو ، سهل الإيقاع ، تقريري الأسلوب . وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، حتى تؤوب ! وقد يشتد الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيب ؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب !

. . وهما - بعد - سورتان مكيتان من القرآن . . ! ! !

ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري . .

إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري ، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة . . مجرد عرض في أسلوب قصصي . . إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية . . ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف ؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناساً أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن ؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة ؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر ؛ مذكرا ومنذرا ؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية . . ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية ؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة ؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ .

إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة . ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا . . إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي . إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد ، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني !

ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب . كما يركز على نقطة الانطلاق ، وعلى نقطة المآب . وبينهما يمر بقصص قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . ثم يركز تركيزاً شديداً على قصة قوم موسى .

وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة :

تبدأ السورة على هذا النحو :

آلمص . كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلا ما تذكرون . .

فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله [ ص ] وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن . . وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص ، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة ، وعودتها من الرحلة المرسومة ، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة . . إنما هو خطاب غير مباشر ، - وأحيانا مباشر - للنبي [ ص ] وقومه للإنذار والتذكير ، كما يشير هذا المطلع القصير .

وقول الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] :

( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ) . .

يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ؛ ويعلم أنه إنما يستهدف أمراً هائلاً ثقيلاً ، دونه صعاب جسام . . يستهدف إنشاء عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس . ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس ، ومن تصورات الجاهلية في العقول ، ومن قيم الجاهلية في الحياة ، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب ، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها ، غريبة على البيئة ، ثقيلة على النفوس ؛ مستنكرة في القلوب . . كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار ، والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد ، والأوضاع والارتباطات . . ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل ، الحرج الذي يدعو الله - سبحانه - نبيه [ ص ] ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه ؛ وأن يمضي به ينذر ويذكر ؛ ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار ، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء . .

ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم ، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم ، ويذكرهم بمصائر المكذبين ، ويعرض عليهم مصارع الغابرين . . جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق :

وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون . .

وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة . . تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض . . وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض . وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون ؛ ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها ؛ والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته :

( ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش . قليلا ما تشكرون ) . .

وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى ، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة . والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة ؛ ويعرض قصة النشأة ، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير ، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية ، ومؤثرات عميقة :

ولقد خلقناكم ثم صورنا كم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين . قال : فاهبط منها ، فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين . قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين . قال : اخرج منها مذؤوماً مدحوراً ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين . . ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . . فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ؛ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون . .

وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها ، ومصائر المرتحلين جميعا . . وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة ، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة ، وبني آدم جميعا . كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة ، ومنافذ الشيطان إليه منها

ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل ، بالإنذار والتحذير . . تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد . . وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر . وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم ، يذكرهم وينذرهم ، ويحذرهم مصيراً كهذا المصير :

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون . . يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . .

( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور ، والخصف من ورق الجنة ؛ ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به ، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم . . لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك . حيث كانواتحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا ، ويحرمون أنواعاً من الثياب ، وأنواعا من الطعام في فترة الحج . ويزعمون أن هذا من شرع الله ، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم . . ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية ، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية . . وفي كل جاهلية في الحقيقة . . أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى ؟

وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل . . إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل . ولأنه يواجه - في كل مرة - حالة معينة ، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع ، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها . .

وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام - في الجزء السابع - يكون قاعدة هامة . . هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئاً لا تستدعيه حالة واقعة . . إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام - ولا حتى القصص - إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها . .

والآن - وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها ، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى ، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى . . الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية ، نهاية المرحلة الكبرى ، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء ، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة .

وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة ، وأكثرها تفصيلاً ، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع . . وموقعه في السورة تعقيباً على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه ؛ وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ؛ وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته . . موقعه كذلك يجعله مصداقاً لما ينبى ء به أولئك الرسل . فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها ؛ وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا : ( أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) . . فعاد المغتربون إلى دار النعيم ! ! !

والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل .

والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير ، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب ، ويطلبون الخوارق لتصديقه ، من سوء المصير :

( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق . فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ؟ قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .

وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يقف السياق ليعقب عليها ، مقرراً " حقيقة الألوهية " و " حقيقة الربوبية " في مشاهد كونية ؛ تشهد بهذه الحقيقة ؛ على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالاً تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة ، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحسالمفتوح والبصيرة المستنيرة . وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية : وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده ، فالله هو ربه وحاكمه . فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازاً في لحن الوجود المؤمن ؛ وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر . . وهو رب العالمين . .

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعاً وخفية . إنه لا يحب المعتدين . ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين . وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ؛ فأخرجنا به من كل الثمرات . كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون . والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون .

والآن تمضي الرحلة ، وتجري القصة ، ويبرز الموكب الإيماني الجليل ، يهتف بالبشرية الضالة ، يذكرها وينذرها ، ويحذرها سوء المصير . والبشرية الضالة تلوي وتعاند ، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ؛ ثم بالطغيان والبطش . . ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار ، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض ، ثم بالبطش والإيذاء . وبعد أن يفاصلوا قومهم على العقيدة ، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله .

ويعرض السياق قصة نوح ، وقصة هود ، وقصة صالح وقصة لوط ، وقصة شعيب . . مع أقوامهم ، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . . ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية ، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية . كما يجادلونهم في إرسال الله بشراً من الناس بالرسالة ! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا ، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية ! - وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون ، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحرراً " وتقدمية " ! - ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة .

ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص ، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون . ولكنهم لا يقدرون نصح رسولهم لهم ؛ ولا يتدبرون عاقبة أمرهم ، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول ، وعمق التجرد من كل مصلحة ، وعمق الإحساس بضخامة التبعة . .

ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح - أول القصص - وما ورد عن قصة شعيب ، آخر هذه الجملة من القصص ، التي يقف السياق بعدها للتعقيب :

( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين . قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلّغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكرمن ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ؟ فكذبوه ، فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوما عمين ) . . .

( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به ، وتبغونها عوجا ، واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ، قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون . فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها . الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين . فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ . . )

ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما . سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل الله بها رسله جميعاً لأبناء آدم - كل في قومه - أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة . أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم . أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم . . ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عندما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة الله - سبحانه للمعركة ، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم ، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم . وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه .

وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب . يبين فيها سنة الله في تعامل قدر الله مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون . إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء ، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب . فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء - وهو أشد فتنة من البأس - حتى تلتبس عليهم سنة الله ، ولا ينتبهوا لها . ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون ! . .

وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم . فمن يدريهم أن قدر الله يتربص بهم ، ليجري فيهم سنته تلك ؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين ، وهم في ديارهم يسكنون ؟

وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟ أفأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون . . تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين . .

بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه ، ومع قومه بني إسرائيل : وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية ؛ وتعرض منها حلقات شتى ؛ ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب ؛ كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة .

ولقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - قبل ذلك - حسب ترتيب النزول - في سور : المزمل ، والفجر ، و ق ، والقمر . . وكلها إشارات قصيرة . وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة ، في هذه المساحة العريضة . .

وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة . وحلقة التحدي والسحرة - وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى - وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم - التي لم تفصل إلا في هذه السورة - وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه . . ثم استمر السياق مع بني إسرائيل . وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً - صنما - كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر ! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه . وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته . وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت ! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة . . وكلها معروضة بتفصيل واسع ، مما جعل القصة تستغرق حزباً كاملاً من السورة .

وفي موقف من مواقف القصة يُدخل السياق الرسالة النبوية الأخيرة ويصف طبيعتها وحقيقتها . وذلك عندما دعا موسى - عليه السلام - ربه في شأن من صعقوا من قومه ؛ واستنزل رحمته - سبحانه - على هذا النحو الذي يتداخل فيه القصص لتأدية غرض المعركة التي يخوضها القرآن فعلاً :

( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ، فلما أخذتهم الرجفة ، قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ، أنت ولينا ، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة . والذين هم بآياتنا يؤمنون : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون ) .

وفي ظل هذا النبأ الصادق من الله ، والوعد السابق برسالة النبي الأمي ، يأمر الله النبي أن يعلن طبيعة رسالته ، وحقيقة دعوته ، وحقيقة ربه الذي أرسله ، والأصل الاعتقادي الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من قبله :

( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون ) .

ثم تواصل القصة سيرها بعد هذه الوقفة ، إلى موقف العهد ونتق الجبل وأخذ الميثاق . وفي ظل مشهد الميثاق والعهد على بني إسرائيل يذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين :

( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) . .

ويمضي السياق بعد ذلك في تعقيبات منوعة ، يعرض في أحدها بعد مشهد العهد الفطري مباشرة ، مشهد الذي آتاه الله آياته ثم انسلخ منها - كبني إسرائيل وككل من يؤتيه الله آياته ثم ينسلخ منها ! - وهو مشهد يذكرنا بصوره وحركته وإيقاعه والتعقيب عليه بمشاهد سورة الأنعام وجوها كذلك :

( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب : إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ! ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ؛ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون . من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لايفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون . . )

ثم يمضي السياق يتحدث عن مسائل العقيدة حديثاً مباشراً . ويعرض مع الحديث بعض المؤثرات من المشاهد الكونية ومن التحذير من بأس الله وأخذه ؛ ومن لمس قلوبهم ليتفكروا ويتدبروا في شأن الرسول ورسالته . . .

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون . وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم ، إن كيدي متين . أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون . .

ثم يأمر الله رسوله [ ص ] أن يعلمهم طبيعة الرسالة وحدود الرسول فيها . وذلك بمناسبة سؤالهم له عن تحديد موعد القيامة التي يخوفهم بها !

( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ ! قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .

ثم يصور لهم كيف تنحرف النفس - التي أخذ الله عليها العهد الذي أسلفنا - عن التوحيد الذي أقرت به فطرتها ؛ ويستنكر تصورات الشرك ومعبوداته ؛ ويوجه رسوله [ ص ] في نهاية هذه الفقرة إلى تحديهم وتحدي آلهتهم العاجزة :

( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تُنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون )

ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول الله [ ص ] كما كان افتتاحها خطاباً له - كيف يعامل الناس ؟ كيف يمضي بهذه الدعوة ؟ كيف يستعين على متاعب الطريق ؟ كيف يكظم غضبه وهو يعاني من نفوس الناس وكيدهم ؟ كيف يستمع هو والمؤمنون معه لهذا القرآن ؟ كيف يذكر ربه ويبقى موصولا به ؟ كما يذكره من عنده في الملأ الأعلى - سبحانه - :

( خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم ؛ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! قل : إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي . هذا بصائر من ربكم ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين . . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ، ويسبحونه ، وله يسجدون . . )

ولعل هذا التلخيص ، وهذه المقتطفات الكثيرة من السورة ، أن تصور ملامحها الخاصة ؛ وتميزها عن أختها سورة الأنعام في هذه الملامح . وفي منهج العرض . مع معالجة موضوع واحد . . موضوع العقيدة . .

وقد أرجأنا كل تفسير للنصوص ، وكل تفصيل للموضوع الذي تحمله ، إلى المواجهة التفصيلية .

. . فعلى بركة الله نمضي

( آلمص ) . . ألف . لام . ميم . صاد . .

هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة وفي أول سورة آل عمران . وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل ، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر ، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلاماً كهذا القرآن . وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها ، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله . فلا بد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات . . وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم . والله أعلم بمراده .

وعلى ذلك يصح القول بأن ( المص ) مبتدأ خبره : ( كتاب أنزل إليك ) . . بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب . . كما يصح القول بأن ( المص ) مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه . و( كتاب )خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو كتاب : أو هذا كتاب . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓمٓصٓ} (1)

قد تقدم الكلام في أول " سورة البقرة " على ما يتعلق بالحروف وبسطه ، واختلاف الناس فيه .

وقال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شَرِيك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : { المص } أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جُبَير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

سورة الأعراف

وهي مكية كلها قاله الضحاك وغيره وقال مقاتل هي مكية إلا قوله ' ?واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ?' إلى قوله '? من ظهورهم ذرياتهم ?فإن هذه الآيات مدنية .

تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السورة وذكر اختلاف المتأولين فيها ، ويختص هذا الموضع زائداً على تلك الأقوال بما قاله السدي : إن { المص } هجاء اسم الله تبارك وتعالى هو المصور ، وبقول زيد بن علي : إن معناه أنا الله الفاصل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الأعراف مكية، إلا قوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} (آية: 163) إلى قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} (آية: 172)، هذه الآيات مدنيات.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا خمس آيات وهي قوله:"واسألهم عن القرية" إلى آخر الخمس.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

إنذار من أعرض عما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام، وتحذيره بقوارع الدارين... وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار والوقوف على حقيقة ما فيهما وما أعد لأهلهما الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

سورة الأعراف... مكية بالإجماع، وقد أطلق القول في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير واستثنى قتادة آية {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} (الأعراف 163) رواه عنه أبو الشيخ وابن حبان. قال السيوطي في الإتقان: وقال غيره: من هنا إلى {وإذ أخذ ربك من بني آدم} (الأعراف 172) مدني اه. وكأن قائل هذا رأى أن هذه الآيات متصل بعضها بعض بالمعنى فلا يصح أن يكون بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وبهذا النظر نقول: إن ما قبل هذه الآيات وما بعدها في سياق واحد وهو قصة بني إسرائيل على أن الغاية وهي: {وإذ أخذ ربك} غير داخلة في المغيا فهي بدء سياق جديد عام. ومقتضى ذلك أن السورة كلها مكية وهو الصحيح المختار. مناسبتها لما قبلها سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام فلو كان ترتيب السبع الطول مراعى فيه تقديم الأطول فالأطول مطلقا لقدمت الأعراف على الأنعام على أنه قد روي أنها نزلت قبلها، والظاهر أنها نزلت دفعة واحدة مثلها. فلم يبق وجه لتقديم الأنعام إلا أنها أجمع لما تشترك السورتان فيه، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي أجملنا جل أصولها في خاتمة تفسيرها، وكون ما أطيل به في الأعراف كالشرح لما أوجز به فيها أو التفصيل بعد الإجمال، ولاسيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه سورة مكية -كسورة الأنعام- موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي.. العقيدة.. ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة! إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة، وذات ملامح متميزة، وذات منهج خاص، وذات أسلوب معين، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة...

. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام -وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود. ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ ا. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام -وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود. ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيب؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب!.. وهما -بعد- سورتان مكيتان من القرآن..!!! ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري.. إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة.. مجرد عرض في أسلوب قصصي.. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية.. ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناساً أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر؛ مذكرا ومنذرا؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية.. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ. إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا.. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!لخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيب؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب!.. وهما -بعد- سورتان مكيتان من القرآن..!!! ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري.. إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة.. مجرد عرض في أسلوب قصصي.. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية.. ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناساً أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر؛ مذكرا ومنذرا؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية.. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ. إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا.. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة.. ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها -وكل جاهلية أخرى كذلك- مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق؛ وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالاً وتفصيلاً ونحن نقدم السورة ونستعرضها -في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضاً- ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف.. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج، وتسلك ذلك الطريق.. نجد سورة الأعراف -وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك- تأخذ طريقاً آخر، وتعرض موضوعها في مجال آخر.. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري.. في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها.. وفي هذا المدى المتطاول تعرض "موكب الإيمان "من لدن آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل.. ويرسم سياق السورة في تتابعه: كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام -وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود. ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيب؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب!.. وهما -بعد- سورتان مكيتان من القرآن..!!! ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري.. إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة.. مجرد عرض في أسلوب قصصي.. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية.. ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناساً أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر؛ مذكرا ومنذرا؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية.. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ. إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا.. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!

ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب. كما يركز على نقطة الانطلاق، وعلى نقطة المآب. وبينهما يمر بقصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب. ثم يركز تركيزاً شديداً على قصة قوم موسى.

وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة:

تبدأ السورة على هذا النحو:

ألمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء. قليلا ما تذكرون..

فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن.. وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة، وعودتها من الرحلة المرسومة، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة.. إنما هو خطاب غير مباشر، -وأحيانا مباشر- للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه للإنذار والتذكير، كما يشير هذا المطلع القصير.

وقول الله -سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم:

(كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه)..

يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام؛ ويعلم أنه إنما يستهدف أمراً هائلاً ثقيلاً، دونه صعاب جسام.. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور، وقيم وموازين، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس، ومن تصورات الجاهلية في العقول، ومن قيم الجاهلية في الحياة، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها، غريبة على البيئة، ثقيلة على النفوس؛ مستنكرة في القلوب.. كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات.. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل، الحرج الذي يدعو الله -سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه؛ وأن يمضي به ينذر ويذكر؛ ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء..

ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم، ويذكرهم بمصائر المكذبين، ويعرض عليهم مصارع الغابرين.. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق:

وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين. فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين. والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون..

وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة.. تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض.. وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض. وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون؛ ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها؛ والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته:

(ولقد مكناكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش. قليلا ما تشكرون)..

وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة. والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة؛ ويعرض قصة النشأة، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية، ومؤثرات عميقة:

ولقد خلقناكم ثم صورنا كم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذؤوماً مدحوراً، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو؛ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون..

وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها، ومصائر المرتحلين جميعا.. وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة، وبني آدم جميعا. كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة، ومنافذ الشيطان إليه منها

ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل، بالإنذار والتحذير.. تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد.. وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر. وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم، يذكرهم وينذرهم، ويحذرهم مصيراً كهذا المصير:

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون.. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، إنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون..

(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)..

ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور، والخصف من ورق الجنة؛ ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم.. لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك. حيث كانوا تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا، ويحرمون أنواعاً من الثياب، وأنواعا من الطعام في فترة الحج. ويزعمون أن هذا من شرع الله، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم.. ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية.. وفي كل جاهلية في الحقيقة.. أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى؟

وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل.. إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل. ولأنه يواجه -في كل مرة- حالة معينة، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها..

وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام -في الجزء السابع- يكون قاعدة هامة.. هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئاً لا تستدعيه حالة واقعة.. إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام -ولا حتى القصص- إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها..

والآن -وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى.. الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية، نهاية المرحلة الكبرى، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة.

وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة، وأكثرها تفصيلاً، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع.. وموقعه في السورة تعقيباً على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه؛ وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة؛ وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته.. موقعه كذلك يجعله مصداقاً لما ينبى ء به أولئك الرسل. فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها؛ وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة، ونودوا: (أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون).. فعاد المغتربون إلى دار النعيم!!!

والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل.

والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب، ويطلبون الخوارق لتصديقه، من سوء المصير:

(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق. فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ قد خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون)..

وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يقف السياق ليعقب عليها، مقرراً "حقيقة الألوهية" و "حقيقة الربوبية" في مشاهد كونية؛ تشهد بهذه الحقيقة؛ على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالاً تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحس المفتوح والبصيرة المستنيرة. وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية: وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده، فالله هو ربه وحاكمه. فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازاً في لحن الوجود المؤمن؛ وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر.. وهو رب العالمين..

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. ادعوا ربكم تضرعاً وخفية. إنه لا يحب المعتدين. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين. وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء؛ فأخرجنا به من كل الثمرات. كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.

والآن تمضي الرحلة، وتجري القصة، ويبرز الموكب الإيماني الجليل، يهتف بالبشرية الضالة، يذكرها وينذرها، ويحذرها سوء المصير. والبشرية الضالة تلوي وتعاند، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد؛ ثم بالطغيان والبطش.. ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض، ثم بالبطش والإيذاء. وبعد أن يفاصلوا قومهم على العقيدة، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله.

ويعرض السياق قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح وقصة لوط، وقصة شعيب.. مع أقوامهم، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).. ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية. كما يجادلونهم في إرسال الله بشراً من الناس بالرسالة! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية!- وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحرراً "وتقدمية "! -ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة.

ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون. ولكنهم لا يقدرون نصح رسولهم لهم؛ ولا يتدبرون عاقبة أمرهم، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول، وعمق التجرد من كل مصلحة، وعمق الإحساس بضخامة التبعة..

ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح- أول القصص -وما ورد عن قصة شعيب، آخر هذه الجملة من القصص، التي يقف السياق بعدها للتعقيب:

(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلّغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا، ولعلكم ترحمون؟ فكذبوه، فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوما عمين)...

(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها. ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به، وتبغونها عوجا، واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين. وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين، قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا. قال: أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها- إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً -على الله توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وقال الملأ الذين كفروا من قومه: لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون. فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين. الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها. الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين. فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين؟..)

ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما. سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل الله بها رسله جميعاً لأبناء آدم- كل في قومه -أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة. أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم. أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم.. ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عندما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة الله- سبحانه للمعركة، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم. وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه.

وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب. يبين فيها سنة الله في تعامل قدر الله مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون. إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب. فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء -وهو أشد فتنة من البأس- حتى تلتبس عليهم سنة الله، ولا ينتبهوا لها. ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون!..

وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم. فمن يدريهم أن قدر الله يتربص بهم، ليجري فيهم سنته تلك؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين، وهم في ديارهم يسكنون؟

وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون؟ أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.. تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين..

بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه، ومع قومه بني إسرائيل: وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية؛ وتعرض منها حلقات شتى؛ ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب؛ كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة.

ولقد وردت حلقات من قصة موسى -عليه السلام- قبل ذلك -حسب ترتيب النزول- في سور: المزمل، والفجر، و ق، والقمر.. وكلها إشارات قصيرة. وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة، في هذه المساحة العريضة..

وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة. وحلقة التحدي والسحرة -وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى- وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم -التي لم تفصل إلا في هذه السورة- وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه.. ثم استمر السياق مع بني إسرائيل. وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً -صنما- كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه. وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته. وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.. وكلها معروضة بتفصيل واسع، مما جعل القصة تستغرق حزباً كاملاً من السورة.

وفي موقف من مواقف القصة يُدخل السياق الرسالة النبوية الأخيرة ويصف طبيعتها وحقيقتها. وذلك عندما دعا موسى -عليه السلام- ربه في شأن من صعقوا من قومه؛ واستنزل رحمته -سبحانه- على هذا النحو الذي يتداخل فيه القصص لتأدية غرض المعركة التي يخوضها القرآن فعلاً:

(واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة، قال: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت ولينا، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، إنا هدنا إليك. قال: عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة. والذين هم بآياتنا يؤمنون: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون).

وفي ظل هذا النبأ الصادق من الله، والوعد السابق برسالة النبي الأمي، يأمر الله النبي أن يعلن طبيعة رسالته، وحقيقة دعوته، وحقيقة ربه الذي أرسله، والأصل الاعتقادي الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من قبله:

(قل: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون).

ثم تواصل القصة سيرها بعد هذه الوقفة، إلى موقف العهد ونتق الجبل وأخذ الميثاق. وفي ظل مشهد الميثاق والعهد على بني إسرائيل يذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين:

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا! أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟)..

ويمضي السياق بعد ذلك في تعقيبات منوعة، يعرض في أحدها بعد مشهد العهد الفطري مباشرة، مشهد الذي آتاه الله آياته ثم انسلخ منها -كبني إسرائيل وككل من يؤتيه الله آياته ثم ينسلخ منها!- وهو مشهد يذكرنا بصوره وحركته وإيقاعه والتعقيب عليه بمشاهد سورة الأنعام وجوها كذلك:

(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث! ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا؛ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون. من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون..)

ثم يمضي السياق يتحدث عن مسائل العقيدة حديثاً مباشراً. ويعرض مع الحديث بعض المؤثرات من المشاهد الكونية ومن التحذير من بأس الله وأخذه؛ ومن لمس قلوبهم ليتفكروا ويتدبروا في شأن الرسول ورسالته...

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه، سيجزون ما كانوا يعملون. وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم، إن كيدي متين. أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة، إن هو إلا نذير مبين. أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون؟ من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون..

ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم طبيعة الرسالة وحدود الرسول فيها. وذلك بمناسبة سؤالهم له عن تحديد موعد القيامة التي يخوفهم بها!

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟! قل: إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها! قل: إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. قل: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً -إلا ما شاء الله- ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)..

ثم يصور لهم كيف تنحرف النفس -التي أخذ الله عليها العهد الذي أسلفنا- عن التوحيد الذي أقرت به فطرتها؛ ويستنكر تصورات الشرك ومعبوداته؛ ويوجه رسوله صلى الله عليه وسلم في نهاية هذه الفقرة إلى تحديهم وتحدي آلهتهم العاجزة:

(قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تُنظرون. إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)

ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان افتتاحها خطاباً له -كيف يعامل الناس؟ كيف يمضي بهذه الدعوة؟ كيف يستعين على متاعب الطريق؟ كيف يكظم غضبه وهو يعاني من نفوس الناس وكيدهم؟ كيف يستمع هو والمؤمنون معه لهذا القرآن؟ كيف يذكر ربه ويبقى موصولا به؟ كما يذكره من عنده في الملأ الأعلى- سبحانه -:

(خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم؛ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها! قل: إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي. هذا بصائر من ربكم، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون. واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين.. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه، وله يسجدون..)

ولعل هذا التلخيص، وهذه المقتطفات الكثيرة من السورة، أن تصور ملامحها الخاصة؛ وتميزها عن أختها سورة الأنعام في هذه الملامح. وفي منهج العرض. مع معالجة موضوع واحد.. موضوع العقيدة..

وقد أرجأنا كل تفسير للنصوص، وكل تفصيل للموضوع الذي تحمله، إلى المواجهة التفصيلية.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراضها:

افتتحت هذه السورة بالتنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاما جامعا وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن.

وتدور مقاصد هذه السورة على محور مقاصد؛ منها: النهي عن اتخاذ الشركاء من دون الله.

وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة.

ووصف ما حل بالمشركين والذين كذبوا الرسل: من سوء العذاب في الدنيا، وما سيحل بهم في الآخرة.

تذكير الناس بنعمة خلق الأرض، وتمكين النوع الإنساني من خيرات الأرض، وبنعمة الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله.

وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.

وتحذير الناس من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيبات، ومن الوقوع فيما يزج بهم في العذاب في الآخرة.

ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتقين.

والتذكير بالبعث وتقريب دليله.

والنهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان.

والتذكير ببديع ما أوجده الله صلاحها وإحيائها.

والتذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التقوى والإصلاح.

وأفاض في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين، ومما لاقوه من عنادهم وأذاهم، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله الناس قبل أن ينزل بهم العذاب، وإعذارا لهم ان يقلعوا عن كفرهم وعنادهم، فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.

وأطال القول في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى عليه السلام.

وتخلل قصته بشارة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته وفضل دينه.

ثم تخلص إلى موعظة المشركين كيف بدلوا الحنيفية وتقلدوا الشرك، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشيطان فانسلخ عن الهدى.

ووصف حال أهل الضلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهية وأن لله الصفات الحسنى صفات الكمال.

ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصدر والمداومة على الدعوة وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سرا وجهرا والإقبال على عبادته.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وتعتبر أوفى سورة عالج فيها الوحي الإلهي بالشرح والتوضيح مجموع العقائد الأساسية للدعوة الإسلامية التي هي خاتم الرسالات الإلهية. وهي في نفس الوقت أول سورة اعتنت عناية خاصة بعرض قصص الأنبياء السابقين مع أممهم على أنظار الأمة الإسلامية، وجميع الأجناس البشرية، إعانة لها على التبصر والاعتبار، وتجنب الموبقات والأخطار...

تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :

[المص]: الله أعلم بمراده بذلك

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

..المص} هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا ألف. لام. ميم. صاد. والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح "ألا "وهاء التنبيه. وإنما خصت سور معينة من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسورتي العنكبوت والروم وسورة "ن" وفي كل منهما معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب...

وأقرب من هذا إلى الفهم أنها أسماء للسور، والاسم المرتجل لا يعلل وهو ما اخترناه في تفسير ألم من سورتي البقرة وآل عمران وعليه الأكثر...