قوله تعالى : { ثم يوم القيامة يخزيهم } ، يهينهم بالعذاب ، { ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم } ، تخالفون المؤمنين فيهم ، مالهم لا يحضرون فيدفعون عنكم العذاب ؟ وكسر نافع النون من تشاقون على الإضافة ، والآخرون بفتحها . { قال الذين أوتوا العلم } ، وهم المؤمنون ، { إن الخزي } الهوان ، { اليوم والسوء } أي : العذاب ، { على الكافرين* } .
وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن الكريم : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .
هذا في الدنيا ، وفي واقع الأرض : ( ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) .
ويرتسم مشهد من مشاهد القيامة يقف فيه هؤلاء المستكبرون الماكرون موقف الخزي ؛ وقد انتهى عهد الاستكبار والمكر . وجاءوا إلى صاحب الخلق والأمر ، يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب : ( أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول والمؤمنين ، وتجادلون فيهم المقرين الموحدين ؟ .
ويسكت القوم من خزي ، لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملائكة والرسل والمؤمنين وقد أذن الله لهم أن يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين : ( قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) . .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
{ ثم يوم القيامة يخزيهم } يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } . { ويقول أين شركائي } أضاف إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم . { الذين كنتم تشاقّون فيهم } تعادون المؤمنين في شأنهم . وقرأ نافع بكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز وجل . { وقال الذين أوتوا العلم } أي الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة . { إن الخزي اليوم والسوء } الذلة والعذاب . { على الكافرين } وفائدة إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة ، وحكايته لأن يكون لطفا ووعظا لمن سمعه .
وقوله { ثم يوم القيامة } الآية ، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا ، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله { يخزيهم } لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم ، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار ، وهذا نظير قوله { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته }{[7279]} [ آل عمران : 192 } . وقوله أين شركائي } توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم ، قال أبو علي : وهذا كما قال الله تعالى حكاية { ذق إنك أنت العزيز الكريم }{[7280]} [ الدخان : 49 ] وكما قال { يا أيها الساحر ادع لنا ربك }{[7281]} [ الزخرف : 49 ] .
قال القاضي أبو محمد : والإضافات تترتب معقولة وملفوظاً بأَرَق سبب ، وهذا كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر :
إذا قلت قدني قال تالله حلفة . . . لتغني عني ذا إنائك أجمعا{[7282]}
فأضاف الإناء إلى حابسه ، وقرأ البزي عن ابن كثير «شركاي » بقصر الشركاء ، وقرأت فرقة «شركاءي » بالمد وياء ساكنة ، و { تشاقون } معناه تحاربون وتحارجون ، أي تكون في شق والحق في شق ، وقرأ الجمهور «تشاقونَ » بفتح النون ، وقرأ نافع وحده بكسر النون ، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم ، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في { تبشرون }{[7283]} [ الحجر : 54 ] ، وقرأت فرقة «تشاقونّي » بشد النون وياء بعدها ، و { الذين أوتوا العلم } هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين ، وقال يحيى بن سلام : هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي ، وغير ذلك ، وباقي الآية بين .