قوله تعالى : { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } . وذلك أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه ، وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت ، وجعلوا عليه رقيباً ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب ، فقتلوه ، وقيل غير ذلك كما ذكرنا في سورة آل عمران .
قوله تبارك وتعالى : { وإن الذين اختلفوا فيه } ، في قتله .
قوله تعالى : { لفي شك منه } ، أي : في قتله ، قال الكلبي : اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت : نحن قتلناه ، وقالت طائفة من النصارى : نحن قتلناه ، وقالت طائفة منهم : ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء ، بل رفعه الله إلى السماء ، ونحن ننظر إليه ، وقيل : كان الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى عليه السلام ، على وجه صطيافوس ، ولم يلقه على جسده ، فاختلفوا فيه فقال بعضهم : قتلنا عيسى ، فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام ، وقال بعضهم : لم نقتله ، لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام ، فاختلفوا . قال السدي : اختلافهم من حيث إنهم قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟
قوله تعالى : { ما لهم به من علم } ، من حقيقة أنه قتل أو لم يقتل .
قوله تعالى : { إلا اتباع الظن } ، لكنهم يتبعون الظن في قتله .
قوله تعالى : { وما قتلوه يقيناً } ، أي : ما قتلوا عيسى يقيناً .
ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون : ( قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ) !
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها ، وتقرير الحق فيها :
( وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ؛ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيمًا ) . .
إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه ، قضية يخبط فيها اليهود - كما يخبط فيها النصارى بالظنون - فاليهود يقولون : إنهم قتلوه ويسخرون من قوله : إنه رسول الله ، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية ! والنصارى يقولون : إنه صلب ودفن ، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام . و " التاريخ " يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب !
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين . . فلقد تتابعت الأحداث سراعا ؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين . . إلا ما يقصه رب العالمين . .
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته . . كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح ؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد . . وقد كتبت معها أناجيل كثيرة . ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد ؛ واعتبرت رسمية ، واعترف بها ؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات !
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة : إنجيل برنابا . وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة ، في قصة القتل والصلب ، فيقول :
" ولما دنت الجنود مع يهوذا ، من المحل الذي كان فيه يسوع ، سمع يسوع دنو جم غفير . فلذلك انسحب إلى البيت خائفا . وكان الأحد عشر نياما . فلما رأى الخطر على عبده ، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل ، سفراءه . . أن يأخذوا يسوع من العالم . فجاء الملائكة الأطهار ، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب ، فحملوه ، ووضعوه في السماء الثالثة ، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد . . ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع . وكان التلاميذ كلهم نياما . فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع . حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع . أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم . لذلك تعجبنا وأجبنا : أنت يا سيدي معلمنا . أنسيتنا الآن ؟ . . إلخ " .
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة - التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر - ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية .
( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه . ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) .
وقولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } أي{[8554]} هذا الذي يدعي لنفسه هذا{[8555]} المنصب قتلناه . وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء ، كقول المشركين : { يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى ، حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات ، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ويصور من الطين طائرًا ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا يشاهَدُ طيرانه بإذن الله ، عز وجل ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ، ومع هذا كذبوه وخالفوه ، وسَعَوْا في أذاه بكل ما أمكنهم ، حتى جعل نبي الله عيسى ، عليه السلام ، لا يساكنهم في بلدة ، بل يكثر السياحة هو وأمه ، عليهما السلام ، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان - وكان رجلا مشركًا من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته : اليونان - وأنهوا إليه : أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه . فغضب{[8556]} الملك من هذا ، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور ، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ، ويكف أذاه على الناس . فلما وصل الكتاب امتثل مُتَولِّي بيت المقدس{[8557]} ذلك ، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى ، عليه السلام ، وهو في جماعة من أصحابه ، اثنا عشر أو ثلاثة عشر - وقيل : سبعة عشر نفرًا - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت ، فحصروه هنالك . فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه ، أو خروجه عليهم قال لأصحابه : أيكم يُلْقَى عليه شبهي ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتَدَب لذلك شاب منهم ، فكأنه استصغره عن ذلك ، فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا يَنْتَدبُ إلا ذلك الشاب - فقال : أنت هو - وألقى اللهُ عليه شبه عيسى ، حتى كأنه هو ، وفُتحَت رَوْزَنَة من سقف البيت ، وأخذت عيسى عليه السلام سِنةٌ من النوم ، فرفع إلى السماء وهو كذلك ، كما قال [ الله ]{[8558]} تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ]{[8559]} } الآية [ آل عمران : 55 ] .
فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى ، فأخذوه في الليل وصلبوه ، ووضعوا الشوك على رأسه ، فأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك ، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ، ما عدا من كان في البيت مع المسيح ، فإنهم شاهدوا رفعه ، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح{[8560]} ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، ويقال : إنه خاطبها ، والله{[8561]} أعلم .
وهذا كله من امتحان الله عباده ؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وقد أوضح{[8562]} الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم ، الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات ، فقال تعالى - وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، المطلع على السرائر والضمائر ، الذي يعلم السر في السموات والأرض ، العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف{[8563]} يكون - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } أي : رأوا شبهه فظنوه إياه ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ]{[8564]} } يعني بذلك : من ادعى قتله من اليهود ، ومن سَلَّمه من جهال النصارى ، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسُعُر . ولهذا قال : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو ، بل شاكين متوهمين .
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي بزعمه ويحتمل أنهم قالوه استهزاء ، ونظيره أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وأن يكون استئنافا من الله سبحانه وتعالى بمدحه ، أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح . { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } روي ( أن رهطا من اليهود سبوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ، فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب . وقيل ( كان رجلا ينافقه فخرج ليدل عليه ، فألقى الله عليه شبهه فأخذ وصلب وقتل ) وقيل : ( دخل طيطانوس اليهودي بيتا كان هو فيه فلم يجده ، وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب . وأمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة ، وإنما ذمهم الله سبحانه وتعالى بما دل عليه الكلام من جراءتهم على الله سبحانه وتعالى ، وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات الباهرة ، وتبجحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم ، و{ شبه } مسند إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول أو في الأمر على قول من قال : لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس ، أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم قتيلا . { وإن الذين اختلفوا فيه } في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه أن الله سبحانه وتعالى يرفعني إلى السماء : أنه رفع إلى السماء . وقال قوم : صلب الناسوت وصعد اللاهوت . { لفي شك منه } لفي تردد ، والشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد ، وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكده بقوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن ، ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فيتصل الاستثناء . { وما قتلوه يقينا } قتلا يقينا كما زعموه بقولهم { إنا قتلنا المسيح } ، أو متيقنين . وقيل معناه ما علموه يقينا كقول الشاعر :
كذاك تخبر عنها العالمات بها *** وقد قتلت بعلمي ذلكم يقينا
من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا أردت أن تبالغ في علمك .
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون ، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، فهذه الطائفة التي قالت { إنا قتلنا المسيح } غير الذين نقضوا الميثاق في الطور ، وغير الذين اتخذوا العجل ، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله : { عيسى ابن مريم } وقوله عز وجل : { رسول الله } إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة ، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول ، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه ، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول ، كما أن قريشاً في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب ، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه ، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم ، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافاً شديداً أنا أختصر عيونه ، إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته ، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء ، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله ، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله ، وكانت بنو إسرائيل تطلبه ، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار ، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى ، فروي أن أحد الحواريين أرشي{[4363]} عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه ، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتاً بمرأى من بني إسرائيل فروي : أنهم عدوهم ثلاثة عشر ، وروي ثمانية عشر وحصروا ليلاً فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة ، ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك الرجل ، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب ، وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه : أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، وألقي عليه شبه عيسى ، ويروى أن شبه عيسى عليه السلام ألقي على الجماعة كلها ، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة ، فأخذوا واحداً ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الرويات التي ذكرتها ، فصلب ذلك الشخص ، وروي : أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى لما رأوه من نقصان العدد واختلاط الأمر فصلب ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب ، فهذا أيضاً يدل على أنه فرقهم وهو في البيت ، أو على أن الشبه ألقي على الكل ، وروي أن هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما المعنى { ولكن شبه لهم } أي شبه عليهم الملك الممخرق{[4364]} ، ليستديم ملكه ، وذلك أنه لما نقص واحد من الجماعة وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش بصلبه وفرق الناس عنه .
وقال : هذا عيسى قد صلب وانحل أمره ، وقوله تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه } يعني اختلاف المحاولين لأخذه ، لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد وتحدث برفع عيسى اضطربوا واختلفوا ، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف ، لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة ولا يقين أيهم هو .
قال القاضي - رحمه الله : الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصاً صلب ، وأما هل هو عيسى أم لا ؟ فليس من علم الحواس ، فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى ، ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به ، ثم استثنى اتباع الظن وهو استثناء متصل ، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد أنهما من معتقدات النفس ، وقد يقول الظان على طريق التجوز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه{[4365]} . وقوله تعالى : { وما قتلوه يقيناً } اختلف المتأولون في عود الضمير من { قتلوه } فقالت فرقة : هو عائد على الظن كما تقول : قتلت هذا الأمر علماً ، فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقيناً ، هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة ، وقال قوم : الضمير عائد على عيسى ، أخبر أنهم لم يقتلوه يقيناً فيصح لهم الإصفاق{[4366]} ، ويثبت نقل كافتهم ، ومضمن الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقيناً ولا شكاً ، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكاً فيه ، وقال قوم من أهل اللسان : الكلام تام في قوله { وما قتلوه } و { يقيناً } مصدر مؤكد للنفي في قوله { وما قتلوه } المعنى يخبركم يقيناً ، أو يقص عليكم يقيناً ، أو أيقنوا بذلك يقيناً .