قوله : " وَقَوْلُهُم " عَطْف على " وَكُفْرِهِم " ، وكُسِرت " إنَّ " لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة .
و " عِيسَى " بدلٌ من " المَسِيح " ، أو عطفُ بيان ، وكذلك " ابن مَرْيَم " ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء{[10277]} في " رَسُول الله " هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ ، وقد يُقال : إنَّ " رَسُول الله " جرَى مَجْرَى الجوامدِ ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار " أعني " ، ولا حاجةَ إليه . قوله " شُبِّهَ لَهُمْ " : " شُبِّهَ " مبني للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده ؛ كقولك : " خُيِّلَ إليه ، ولُبِّسَ علَيْهِ " [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ] .
والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم : " إِنَّا قَتَلْنَا " أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه ، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ] .
وهذا القَوْل مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم ؛ لأن قَولَهُم ، فَعَلْنَا ذَلِك ، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ]{[10278]} ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ .
فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى – عليه السلام – أعداء لَهُ ، عَامِدِين لِقَتْلِه ، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة ؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة ، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ]{[10279]} ابن مَرْيَم رسُول الله ؟ .
فالجوابُ من وَجْهَيْن{[10280]} :
الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ ؛ كقول فِرْعَوْن : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام - : { يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
الثاني : أنه يجُوزُ أن يَضَعَ{[10281]} الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم ؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } .
واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى ، فقال . . . الآية .
فإن قيل : إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر ، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة ، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه ، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع ، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء – [ عليهم الصلاة والسلام ]{[10282]} - ؛ لأنا نَقُول : لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم ، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان ، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر ، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة .
وأيضاً : ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات ، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ ، وحينئذٍ يعُود{[10283]} الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر ، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [ جميع ]{[10284]} الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وإذَا{[10285]} كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ ، كان مَرْدُوداً .
فالجوابُ : قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين{[10286]} : إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه ، رفَعَهُ الله إلى السَّمَاءِ ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم ، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ ، زال{[10287]} السُّؤالُ ، ولا يُقالُ : إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً ؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين ، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب ، وقيل غَيْر ذلِكَ ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } في سورة آل عمران [ الآية : 55 ] .
ثم قال : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } هذا الاختلافُ فيه قولان :
الأول : أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ : نَسْطُورِيَّة ، ومَلْكَانِية ، ويعقوبية :
فالنَّسْطُوريَّة : زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه ، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء ؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل{[10288]} ، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن ، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل ، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى ، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا ، ولا يُقَال : كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك ، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص ؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة ، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة ، وإذا كانت كَذَلِكَ ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا{[10289]} بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن ، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة{[10290]} السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ{[10291]} خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ .
وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا : القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور ، لا بالمُبَاشَرَةِ .
وقالت اليعقوبية : القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن .
فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ ، وهو المُرَاد من قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } .
والمنزل{[10292]} الثاني : أن المُراد ب " الَّذِين اخْتَلَفُوا فِيه " اليَهُود ، وفيه وجهان :
الأوَّل : أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به ، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه ، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى ، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ ، قالوا : الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه .
والثاني : قال السُّدِّي{[10293]} : إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِيِّين في بَيْتٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ ، فألقى{[10294]} الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء ، فأخذوا ذلك الرَّجُلَ فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا [ إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا ، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى ]{[10295]} ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه .
قوله : { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } : " مِنْهُ " في محلِّ جرِ صفة ل " شَكٍّ " يتعلَّقُ بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس " شَكٍّ " ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى ب " في " لا ب " مِنْ " ، ولا يقال : إنَّ " مِنْ " بمعنى " في " ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ ، ولا ضرورة لنا به هنا .
وقوله : { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في " مِنْ علمٍ " وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالفاعليَّة ، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ : إمَّا " لَهُمْ " وإما " به " ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له ، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر ، و " مِنْ " زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة .
والوجه الثاني : أن يكون " مِنْ علْمٍ " مبتدأ زيدت فيه " مِنْ " أيضاً وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ " لَهُم " فيكون : " به " : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر ، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر ، وإمَّا حالاً من " عِلْمٍ " ، وإنْ كان نكرةً ؛ لتقدُّمها عليه ، ولاعتمادِه على نَفْي ، فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه ، وهو ضرورةٌ ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم .
فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو البقاء{[10296]} وغيره ؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً ، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ ، والزائدُ في حكْم المُطَّرَح ، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، أي : أعْني به ، ذكره أبو البقاء{[10297]} ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس " عِلْم " ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه .
والاحتمال الثاني : أن يكون " به " هو الخبر ، و " لَهُمْ " متعلق بالاستقرار ؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجرّ على أنها صفةٌ ثانية ل " شَكٍّ " أي : غير معلوم .
الثاني : النصب على الحال من " شَكٍّ " ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله " مِنْه " .
الثالث : الاستئنافُ ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيدٌ .
قوله : { إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : ولم يذكر الجمهورُ غيره : أنه منقطع ؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ،
[ قال شهاب الدين : ]{[10298]} ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ " اتِّباع " على أصل الاستثناء المنقطِعِ ، وهي لغةُ الحجاز ، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من " عِلْم " لفظاً ، فيجرُّ ، أو على الموضع ، فيُرفَعُ ؛ لأنه مرفوع المحلِّ ؛ كما قدَّمته لك ، و " مِنْ " زائدةٌ فيه .
والثاني - قال ابن عطية - : أنه متصِلٌ ، قال : " إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز : " عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا " إنما يريدُ ظَنِّي " انتهى ، وهذا غيرُ موافقٍ عليه ؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن ، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضاً ، أي : ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم .
ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة : بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ ، فيكون من جِنْسِهِ ؛ كقوله - تعالى - { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وأراد : يَعْلَمُون ، وقوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] أي : تَيَقَّنُوا ، وقوله : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه ، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً .
احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ ، وقالوا : العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ ، وهو مَذْمُومٌ ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا ، وذَمَّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ{[10299]} إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] وقال : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنِّ ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ]{[10300]} ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً .
قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في " قَتَلُوهُ " فيه أقوال :
أظهرها : أنه ل " عيسى " ، وعليه جمهور المفسرين .
والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء{[10301]} - : أنه يعودُ على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حدِّ قولهم : " قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقيناً " و " قَتَلتهُ عِلْماً " ، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به ، إنما كان عن ظن وتخمين .
الثالث – وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول : " قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً " ، أي : تحقَّقت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً ، ولا قطعوا الظنَّ باليقين .
قوله : " يَقيناً " فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً .
الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله ؛ كما تقدم مجازه ؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقَّنوه يقيناً .
الثالث : أنه حال من فاعل " قَتَلُوهُ " ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله .
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه ، أي : ما تيقَّنوه يقيناً ، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله ، وقدَّر أبو البقاء{[10302]} العامل على هذا الوجه مثبتاً ، فقال : " تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً " ، وفيه نظر .
الخامس – ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد " بَلْ " من قوله : " رَفَعَهُ الله " ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليلُ ، فمَنْ دونه على منعه ، أي : أن " بَلْ " لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَلْ رفَعَهُ الله إِلَيْهِ } رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه ، والضمير في " إلَيْه " عائدٌ على " الله " على حَذْفِ مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه .