اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا} (157)

قوله : " وَقَوْلُهُم " عَطْف على " وَكُفْرِهِم " ، وكُسِرت " إنَّ " لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة .

و " عِيسَى " بدلٌ من " المَسِيح " ، أو عطفُ بيان ، وكذلك " ابن مَرْيَم " ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء{[10277]} في " رَسُول الله " هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ ، وقد يُقال : إنَّ " رَسُول الله " جرَى مَجْرَى الجوامدِ ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار " أعني " ، ولا حاجةَ إليه . قوله " شُبِّهَ لَهُمْ " : " شُبِّهَ " مبني للمفعول ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده ؛ كقولك : " خُيِّلَ إليه ، ولُبِّسَ علَيْهِ " [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ] .

والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم : " إِنَّا قَتَلْنَا " أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه ، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ] .

فصل

وهذا القَوْل مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم ؛ لأن قَولَهُم ، فَعَلْنَا ذَلِك ، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ]{[10278]} ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ .

فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى – عليه السلام – أعداء لَهُ ، عَامِدِين لِقَتْلِه ، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة ؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة ، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ]{[10279]} ابن مَرْيَم رسُول الله ؟ .

فالجوابُ من وَجْهَيْن{[10280]} :

الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ ؛ كقول فِرْعَوْن : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام - : { يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .

الثاني : أنه يجُوزُ أن يَضَعَ{[10281]} الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم ؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به .

ثم قال - تعالى - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } .

واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى ، فقال . . . الآية .

فإن قيل : إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر ، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة ، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه ، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع ، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء – [ عليهم الصلاة والسلام ]{[10282]} - ؛ لأنا نَقُول : لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم ، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان ، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر ، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة .

وأيضاً : ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات ، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ ، وحينئذٍ يعُود{[10283]} الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر ، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [ جميع ]{[10284]} الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وإذَا{[10285]} كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ ، كان مَرْدُوداً .

فالجوابُ : قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين{[10286]} : إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه ، رفَعَهُ الله إلى السَّمَاءِ ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم ، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ ، زال{[10287]} السُّؤالُ ، ولا يُقالُ : إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً ؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين ، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب ، وقيل غَيْر ذلِكَ ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } في سورة آل عمران [ الآية : 55 ] .

ثم قال : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } هذا الاختلافُ فيه قولان :

الأول : أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ : نَسْطُورِيَّة ، ومَلْكَانِية ، ويعقوبية :

فالنَّسْطُوريَّة : زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه ، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء ؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل{[10288]} ، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن ، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل ، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى ، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا ، ولا يُقَال : كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك ، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص ؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة ، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة ، وإذا كانت كَذَلِكَ ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا{[10289]} بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن ، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة{[10290]} السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ{[10291]} خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ .

وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا : القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور ، لا بالمُبَاشَرَةِ .

وقالت اليعقوبية : القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن .

فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ ، وهو المُرَاد من قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } .

والمنزل{[10292]} الثاني : أن المُراد ب " الَّذِين اخْتَلَفُوا فِيه " اليَهُود ، وفيه وجهان :

الأوَّل : أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به ، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه ، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى ، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ ، قالوا : الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه .

والثاني : قال السُّدِّي{[10293]} : إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِيِّين في بَيْتٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ ، فألقى{[10294]} الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء ، فأخذوا ذلك الرَّجُلَ فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا [ إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا ، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى ]{[10295]} ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه .

قوله : { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } : " مِنْهُ " في محلِّ جرِ صفة ل " شَكٍّ " يتعلَّقُ بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس " شَكٍّ " ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى ب " في " لا ب " مِنْ " ، ولا يقال : إنَّ " مِنْ " بمعنى " في " ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ ، ولا ضرورة لنا به هنا .

وقوله : { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في " مِنْ علمٍ " وجهان :

أحدهما : أنه مرفوع بالفاعليَّة ، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ : إمَّا " لَهُمْ " وإما " به " ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له ، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر ، و " مِنْ " زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة .

والوجه الثاني : أن يكون " مِنْ علْمٍ " مبتدأ زيدت فيه " مِنْ " أيضاً وفي الخبر احتمالان :

أحدهما : أن يكونَ " لَهُم " فيكون : " به " : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر ، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر ، وإمَّا حالاً من " عِلْمٍ " ، وإنْ كان نكرةً ؛ لتقدُّمها عليه ، ولاعتمادِه على نَفْي ، فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه ، وهو ضرورةٌ ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم .

فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو البقاء{[10296]} وغيره ؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً ، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ ، والزائدُ في حكْم المُطَّرَح ، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، أي : أعْني به ، ذكره أبو البقاء{[10297]} ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس " عِلْم " ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه .

والاحتمال الثاني : أن يكون " به " هو الخبر ، و " لَهُمْ " متعلق بالاستقرار ؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجرّ على أنها صفةٌ ثانية ل " شَكٍّ " أي : غير معلوم .

الثاني : النصب على الحال من " شَكٍّ " ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله " مِنْه " .

الثالث : الاستئنافُ ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيدٌ .

قوله : { إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } في هذا الاستثناء قولان :

أصحهما : ولم يذكر الجمهورُ غيره : أنه منقطع ؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ،

[ قال شهاب الدين : ]{[10298]} ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ " اتِّباع " على أصل الاستثناء المنقطِعِ ، وهي لغةُ الحجاز ، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من " عِلْم " لفظاً ، فيجرُّ ، أو على الموضع ، فيُرفَعُ ؛ لأنه مرفوع المحلِّ ؛ كما قدَّمته لك ، و " مِنْ " زائدةٌ فيه .

والثاني - قال ابن عطية - : أنه متصِلٌ ، قال : " إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز : " عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا " إنما يريدُ ظَنِّي " انتهى ، وهذا غيرُ موافقٍ عليه ؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن ، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضاً ، أي : ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم .

ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة : بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ ، فيكون من جِنْسِهِ ؛ كقوله - تعالى - { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وأراد : يَعْلَمُون ، وقوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] أي : تَيَقَّنُوا ، وقوله : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه ، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً .

فصل في دفع شبهة لمنكري القياس

احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ ، وقالوا : العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ ، وهو مَذْمُومٌ ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا ، وذَمَّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ{[10299]} إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] وقال : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ .

والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنِّ ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ]{[10300]} ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً .

قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في " قَتَلُوهُ " فيه أقوال :

أظهرها : أنه ل " عيسى " ، وعليه جمهور المفسرين .

والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء{[10301]} - : أنه يعودُ على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حدِّ قولهم : " قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقيناً " و " قَتَلتهُ عِلْماً " ، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به ، إنما كان عن ظن وتخمين .

الثالث – وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول : " قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً " ، أي : تحقَّقت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً ، ولا قطعوا الظنَّ باليقين .

قوله : " يَقيناً " فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً .

الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله ؛ كما تقدم مجازه ؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقَّنوه يقيناً .

الثالث : أنه حال من فاعل " قَتَلُوهُ " ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله .

الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه ، أي : ما تيقَّنوه يقيناً ، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله ، وقدَّر أبو البقاء{[10302]} العامل على هذا الوجه مثبتاً ، فقال : " تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً " ، وفيه نظر .

الخامس – ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد " بَلْ " من قوله : " رَفَعَهُ الله " ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليلُ ، فمَنْ دونه على منعه ، أي : أن " بَلْ " لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَلْ رفَعَهُ الله إِلَيْهِ } رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه ، والضمير في " إلَيْه " عائدٌ على " الله " على حَذْفِ مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه .


[10277]:ينظر: الإملاء 1/201.
[10278]:سقط في ب.
[10279]:سقط في أ.
[10280]:في ب: وجوه.
[10281]:في أ: يقبح.
[10282]:سقط في أ.
[10283]:في ب: فيعود.
[10284]:سقط في ب.
[10285]:في ب: فإذا.
[10286]:ينظر: تفسير الرازي 11/79.
[10287]:في ب: زوال.
[10288]:في ب: الكيل.
[10289]:في ب: ألمها.
[10290]:في أ: فسيحة.
[10291]:في أ: بعد.
[10292]:في ب: والقول.
[10293]:ينظر: تفسير الرازي 11/80.
[10294]:في ب: ألقى.
[10295]:سقط في أ.
[10296]:ينظر: الإملاء 1/201.
[10297]:ينظر: السابق.
[10298]:ينظر: الدر المصون 2/458.
[10299]:في أ: أنتم.
[10300]:سقط في ب.
[10301]:ينظر: معاني القرآن 1/294.
[10302]:ينظر: الإملاء 1/201.