البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا} (157)

{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله : { إنك لأنت الحليم الرشيد } ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعاً لعيسى عليه السلام ، كما كانوا يذكرونه به .

ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال : هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول .

ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى ، فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول .

{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه .

واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن .

ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقى شبهه على الرجل فصلب .

وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه .

وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى .

وقيل : ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة ، فأخذوا واحداً ممن عليه الشبه فصلب .

وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب .

وقيل : لم يلق شبهه على أحد ، وإنما معنى : ولكن شبه لهم ، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم .

أمّا أن يلقى شبهه على شخص ، فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتمد عليه .

وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً .

فقيل : اليهودي الذي دل عليه .

وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده .

وقيل : واحد من اليهود .

وقيل : دخل ليقتله .

وقيل : رقيب وكلته به اليهود .

وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين .

وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك .

ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة .

وقيل : سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم : « اللهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي » فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله .

وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه .

ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه .

ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ، لأن المسيح مشبه به لا مشبه .

{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب ، الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره .

وقيل : أدخلوا عليه واحداً ليقتله ، فألقى الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد .

وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا ؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب .

قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب ، وهل هو عيسى أم لا ؟ فليس هو من علم الحواس ، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة .

والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده .

وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه إله .

وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى .

وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته .

وقيل : وقع القتل والصلب عليهما .

وقيل : عائد على اليهود والنصارى ، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا .

وقالت النصارى : هو ابن الله .

وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته ، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء .

والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع ، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم .

أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم .

وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .

وقال ابن عطية : هو استثناء متصل ، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين .

وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه انتهى .

وليس كما ذكر ، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين ، لأنه ترجيح أحد الجائزين ، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين ، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين .

وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر ، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً ، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم .

فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر .

وقال الزمخشري .

( فإن قلت ) : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين ؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى .

وهو جواب سؤاله ، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع ، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين .

وإذا كان كذلك اندفع السؤال .

{ وما قتلوه يقيناً } قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن .

تقول : قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء .

فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ، ولا قطعوا الظن باليقين .

وقال الفراء وابن قتيبة ؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً .

يقال : قتلت العلم والرأي يقيناً ، وقتلته علماً ، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به ، إنما كان ظناً .

قال الزمخشري : وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين ، وإحاطة لم يكن إلا تهكماً انتهى .

والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف .

والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي .

أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري .

وقال الحسن : وما قتلوه حقاً انتهى .

فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقاً أي : حق انتفاء قتله حقاً .

وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإن يقيناً منصوب برفعه الله أليه ، والمعنى : بل رفعه الله إليه يقيناً ، فلعله لا يصح عنه .

وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها .

/خ159