الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا} (157)

( وَقَوْلِهِمُ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ) أي : بدعواهم ذلك ، فأكذبهم الله في ذلك ، فقال : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) .

قيل : إن( {[13968]} ) اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون( {[13969]} ) عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى ، فأشكل عليهم أمر عيسى ، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى( {[13970]} ) .

قال وهب بن منبه : أتى عيسى( {[13971]} ) ومن( {[13972]} ) معه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، فأحاط بهم اليهود ، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم( {[13973]} ) جميعاً ، قال عيسى لأصحابه : من يشتري اليوم نفسه بالجنة ؟ قال رجل منهم : أنا فخرج إليهم . فقال : أنا عيسى ، فأخذوه وقتلوه( {[13974]} ) ، وهو على صورة عيسى ، وصلبوه وظنوا أنه عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك ، إذا الصورة مشبهة ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك( {[13975]} ) .

وقيل : إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر ، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم( {[13976]} ) يريدون خلاصه ، فقال : أنا أخليه لكم ، فقالوا : ( {[13977]} ) بل نريد قتله ، فرفعه الله إليه ، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله ، وقال لهم : قد قتلته ، خوفاً منهم ، وهو الذي شبه لهم .

قوله : ( وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى ، ومن معه وأرادوا قتله ، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كانوا عرفوا عدد من كان في البيت ، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل : فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد ، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد ، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك( {[13978]} ) .

وقيل : إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل .

وزعم بعضهم أنه ما قتل ، فهم شاكون فيه . ودل على صحة شكهم قوله تعالى : ( مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم( {[13979]} ) .

( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي : ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً ، ولكنهم قتلوه على شك ، فالهاء عائدة على الظن .

قال ابن عباس : المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً .

وقال السدي : وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى( {[13980]} ) .

وقال الفراء : المعنى : ما قتلوا العلم به يقيناً( {[13981]} ) .

وقيل المعنى : االذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً ، بل قتلوه على شك ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أي عيسى .

" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً " .

" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي ، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى : قال هذا قولاً يقيناً " ( {[13982]} ) .

قال النحاس : إن قدرت أن يكون المعنى : " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل ، . . . ( {[13983]} ) وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل( {[13984]} ) .

وقال بعض أصحاب حمزة " ( {[13985]} ) : عيسى ابن مريم تمام . لأنهم لم يقروا بأنه رسول فليس بمتصل بما قبله( {[13986]} ) .

وقال نافع : ( لَفِي( {[13987]} ) شكٍّ مِّنْهُ ) تمام( {[13988]} ) .

وأجاز ابن الأنباري( {[13989]} ) الوقف على " قتلوه " ( {[13990]} ) على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقيناً( {[13991]} ) ، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً ، ثم تبتدئ ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) مستأنفاً .

قوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه .

والاستعارة في كلام العرب باب ، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [ فالاستعارة ]( {[13992]} ) معناها : أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها ، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [ عنه ]( {[13993]} ) يكون ، والمطر سماء ، لأنه منها ينزل ، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات . وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر . ويقولون " لقيت من فلان عرق القرية " أي : شدة ، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه ، فاستعير عرقه في موضع .

ومن ذلك قول الله تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ )( {[13994]} ) أي : عن شدة الأمر ، وذلك أن الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق في موضع الشدة ، وهو كثير في القرآن ، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه .

ومنه قوله : ( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )( {[13995]} ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً )( {[13996]} ) إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول : ما رزانه( {[13997]} ) ، زبالاً( {[13998]} ) ، فالزبال ما تحمله النملة بفيها .

ومنه قوله : ( مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير )( {[13999]} ) يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء .

ومنه ( فَجَعَلْنَاهُ هَنَاءً مَّنْثُوراً )( {[14000]} ) أراد به أبطلناه ، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه ، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت ، والمنبث( {[14001]} ) ما سطع من سنابك الخيل .

ومنه : ( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )( {[14002]} ) أي : لا تتغني خيراً ، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه .

ومنه : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ )( {[14003]} ) أي أطلعنا ، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار( {[14004]} ) سبباً للتبين( {[14005]} ) فاستعير مكان التبيين والاطلاع .

ومنه ( حُبَّ الخَيْرِ )( {[14006]} ) يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها .

ومنه ( أَوَمَنْ كَانَ مَيّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( {[14007]} ) أي كافراً فهديناه ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ) أي إيماناً ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر ، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان .

ومنه : ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ )( {[14008]} ) أي : إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل( {[14009]} ) ، وشبه( {[14010]} ) بالثقل ، لأن الحمل والثقل سواء فقال : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ )( {[14011]} ) أي آثاماً مع آثامهم .

ومنه : ( وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )( {[14012]} ) أي نكاحاً لأن النكاح يكون سراً ، ولا يظهر فاستعير له السر .

ومنه : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ )( {[14013]} ) كما تزرع الأرض ، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض .

ومنه : ( إِلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )( {[14014]} ) أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرف ، بصره عن الشيء ويغمضه فسمي( {[14015]} ) الترخيص إغماضاً .

ومنه ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )( {[14016]} ) جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان ، ويلتصقان كالثوب في تتضامه ، والتصاقه على الإنسان ، وقد قيل معنى ( لِبَاساً ) سكناً ، كما قال ( لِيَسْكُنَ( {[14017]} ) إِلَيْهَا )( {[14018]} ) ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ )( {[14019]} ) .

ومنه : ( وَثِيَابَكَ( {[14020]} ) فَطَهِّرْ ) أي : نفسك من الذنوب ، فجعل موضع النفس ، لنه يشتمل عليها ، وشبه ذلك كثير .


[13968]:- ساقط من (د).
[13969]:- (د): لا ينبثون وهو تحريف.
[13970]:- انظر: جامع البيان 6/12.
[13971]:- (ج): عيسى صلى الله عليه وسلم.
[13972]:- كذا... وصوابه: عيسى ومعه، وهي رواية جامع البيان 6/12.
[13973]:- (د): ليقتلنكم.
[13974]:- (ج) (د): فقتلوه.
[13975]:- جامع البيان 6/12-13.
[13976]:- (أ) فتراهم وكأن المعنى: فتوهم خليفة قيصر [المدقق].
[13977]:- (د): فقالوا بلى بل.
[13978]:- انظر: هذا التوجيه في جامع البيان 6/16.
[13979]:- انظر: جامع البيان 6/17.
[13980]:- انظر: جامع البيان 6/17.
[13981]:- انظر: معاني الفراء 1/294.
[13982]:- انظر: القطع: 245.
[13983]:- بياض في كل النسخ.
[13984]:- م. انظر: إعراب النحاس 1/469، ومشكل الإعراب 1/212.
[13985]:- هو أبو عمارة حمزة بن حبيب بن إسماعيل التيمي توفي 156 أحد القراء السبعة كان عالماً ورعاً ومقرئاً. انظر: معرفة القراء 1/93، وغاية النهاية 1/261.
[13986]:- القطع: 275.
[13987]:- (ج): وفي أسكنه لفي شك.
[13988]:- انظر: القطع: 275.
[13989]:- (د): الأنباري من الوقف.
[13990]:- إيضاح الوقف 2/609.
[13991]:- (د): ولقد صدقتم يقيناً ولقد صدقتم.
[13992]:- ساقط من (أ).
[13993]:- (د): ما هو قريب منها ما هو قريب منها.
[13994]:- القلم آية: 42.
[13995]:- النساء: الآية 48.
[13996]:- النساء: الآية 123.
[13997]:- (د): ما ران وهو تحريف.
[13998]:- وأصله ما أغنى عنه زبله ولا زبال، ويروى ما في الإناء زبالة وهو مثل يضرب لمن لا يغني عنك شيئاً. انظر: مجمع الأمثال 2/293 ومعنى ما رزأ: ما أصاب: انظر: اللسان 1/85 و11/300.
[13999]:- فاطر: آية 13.
[14000]:- الفرقان آية 23.
[14001]:- قال تعالى: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثّاً) الواقعة آية 6، تفسير الغريب 372-445.
[14002]:- إبراهيم آية 45.
[14003]:- الكهف آية 31.
[14004]:- (د): استار.
[14005]:- (ج): التبيين.
[14006]:- ص آية 32.
[14007]:- الأنعام آية 122.
[14008]:- الشرح: 2.
[14009]:- (أ): الحمل (د): الجبل.
[14010]:- (د): وشبيه.
[14011]:- العنكبوت آية 12.
[14012]:- البقرة آية 233.
[14013]:- البقرة آية 221.
[14014]:- البقرة آية 266.
[14015]:- (د): فتمسى.
[14016]:- البقرة آية 186.
[14017]:- (ج) (د): ليسكنوا إليها وفي "النمل" آية 86 (لِتَسْكُنُوا فِيهِ)، وفي الروم آية 21 (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).
[14018]:- الأعراف آية 189.
[14019]:- يونس: 67 والقصص آية 73، انظر: معاني الزجاج 1/256.
[14020]:- في جميع النسخ كثيابك، وهو خطأ والآية من المدثر: 4.