التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا} (157)

ومن أباطيلهم وجرائمهم كذلك ما قالوه من زعم كاذب : بأنهم قتلوا المسيح وفي هذا يقول سبحانه : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) سمي المسيح بذلك لما كان يمسح به من الدهن . وقيل سمي بذلك لسياحته في الآفاق داعيا إلى الله ، وقيل غير ذلك ، وعيسى بدل من المسيح وهي كلمة عبرانية . ابن بدل من عيسى ومريم مضاف إليه . ورسول منصوب على المفعولية لفعل محذوف تقديره أعني وقيل على البدلية .

وهذه واحدة أخرى من مفتريات يهود ؛ إذ كذبوا على الله والناس حين زعموا أنهم قتلوا المسيح . وقوله : ( رسول الله ) يوحي بما قصده اليهود من التهكم ، فهم أصلا لا يصدقون رسالته ونبوته ، ولكنهم ينسبون إليه الرسالة ساخرين متهكمين يضاف إلى ذلك جانب الغمز الذي ينوون به نفي النبوة عن سيدنا عيسى عليه السلام فكأنهم يقولون : لقد قتلنا هذا الرسول ، ولو كان رسولا حقا لدافع عنه ربه ولما أمكننا قتله .

والقول الفاصل الحق الذي لا ريب فيه أن المسيح لم يقتل ولم يصلب ، بل إن الله قد رفعه إليه رفعا . وما القتل المزعوم إلا حدثا موهوما قد شبه لليهود والنصارى معا فانطلقوا يهذون في تخريص واهم بقتل المسيح وصلبه .

وحقيقة المسألة تأتي في غاية السهولة والبساطة لو صاخ الناس لكلمة الوحي الفاصلة التي تقضي في الأمر في صدق ويقين قطعيين ، أن حقيقة المسألة سهلة وبسيطة لا تحتمل شيئا من مثل هذا الصخب المصطنع وهذه الضجة العارمة المفتعلة وما صاحب ذلك كله من خلاف عميق أثار في الأرض رياح النزاع والتخاصم بين المجتمعات والطوائف على مر الزمن .

إن المسألة لا تحتمل مثل شيء من هذا الذي حدث ، إن هي إلا قصة مولود جيء به من غير نكاح ، ولا يقع ذلك إلا بإذن الله ، وهو القادر على كل شيء . نتصور سهولة ذلك وبساطة حدوثه عندما نستذكر مسألة الخلق بالنسبة لأبي البشر آدم عليه السلام ؛ إذ خلقه الله من طين لازب ؛ فليس ثمة أب وليس ثمة أم . ذلك كل الذي يقال ببساطة في مثل هذا الموقف كيلا نتعثر فيما تعثرت به الطوائف والأناسي من الخلاف والخصام وما أعقبه ذلك من فتن وخلافات وخصومات دينية معقدة مستعصية لا سبيل لفضها طيلة الدهر .

وقوله : ( ولكن شبه لهم ) والعبارة على هذا النحو تحتمل الإجمال مما حدا بالعلماء والمفسرين أن يدلوا بأقوال شتى في الكشف عن المقصود بالتشبيه . ولا نلمك في هذا المقام أن نخوض في الكشف والتبيين خوضا يعقبه تكلف . لكن الذي نملك أن نقوله أن قصة القتل والصلب كاذبة موهومة وكل الذي حصل أن ذلك شبه لهم ، على ما في هذا التعبير من إجمال ، سواء كان التشبيه بإلقاء صورة المسيح على أحد الحواريين فشابهه تماما ، أو أن اليهود قد قتلوا الذي قتلوه وهم في شك إن كان هو المسيح أو غيره فظنوا ذلك ظنا .

قوله : ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) واختلافهم فيه قد جاء في تفسيره جملة أقوال منها : أن المسيح إله وذلك غاية الإفراط الذي بلغه النصارى في تقديس عيسى عليه السلام . وقال بعضهم : بل هو ابن الله .

ومنها : أنه قد رفع إلى السماء ولم يقتل . وذلك قول فريق من قومه الذين عاينوا رفعه .

ومنها : أن عيسى قد صلب من حيث ناسوته لا من حيث لاهوته . بمعنى أن جانبه الإنساني هو الذي وقع عليه القتل والصلب ، لكن جانبه الإلهي لا يقع عليه قتل ولا يحتمل شيئا من ذلك ؛ لأنه يمثل جزءا من إله والقتل فيه غير متصور .

ومنها : أنه قد قتل وصلب من حيث ناسوته ولاهاوته معا . فقد وقع القتل على ما فيه من جانبين متكاملين .

وقيل غير ذلك من مثل هذه الأقوال المتكلفة المعقدة التي تقوم على الظن والتخمين ، والتي لا يسعفها المنطق الثابت أو الحجة المعتبرة . لا جرم أن ذلك تفكير هائم سابح في غياهب الوهم الشاطح المريض . وهؤلاء الذين اختلفوا في المسيح على نحو ما بينا ( لفي شك منه ) أي في حيرة وارتياب مما حدث . فهم ليسوا على قطع أو يقين من وقوع القتل والصلب ، ولكنهم مضطربون في ذلك وشاكون . وهم كذلك لا يسعفهم في الذي زعموا أية أثارة من علم أو دليل ، وليس لهم في ذلك إلا الاعتماد على الظن والاستناد إلى التخمين أو الهوى المتعصب . وفي ذلك يقول سبحانه : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) اتباع منصوب على الاستثناء المنقطع . ثم تعاود الآية التأكيد مرة أخرى لتنفي مقتل المسيح أو موته ، وأن ما أشيع عن قتله ليس إلا ظنا وما هو من اليقين في شيء ( وما قتلوه يقينا ) ما نافية . قتلوه جملة فعلية تتضمن فعلا ماضيا ، والفاعل واو الجماعة ، والضمير في محل نصب مفعول به . يقينا نعت لمصدر محذوف تقديره قولا وتقدير العبارة أن الله قال هذا قولا يقينا . فالله سبحانه يحسم المسألة في يقين لا يعتريه ظن أو شك أن عيسى لم يقتل ( بل رفعه الله إليه ) وقيل في قوله : ( وما قتلوه يقينا ) إنهم لم يقتلوه وهم متيقنون أنه هو ، بل إنهم قتلوه وهم في شك من ذلك .