الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا} (157)

و{ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ . . . } [ النساء :157 ] ، هذه الآيةُ والَّتِي قبلها عدَّدَ اللَّه تعالى فيهما أقوالَ بَنِي إسرائيل ، وأفعالَهُمْ ، على اختلافِ الأزمان ، وتعاقُبِ القرون ، فاجتمع مِنْ ذلك توبيخُ خَلَفِهِمُ المعاصِرِينَ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فهذه الطائفةُ التي قالَتْ : ( إنا قَتَلْنَا المسيحَ ) غَيْرُ الذين نقضوا الميثاقَ في الطُّور ، وغَيْرُ الذين اتَّخَذُوا العجْلَ ، وقولُ بني إسرائيل إنَّمَا هُوَ إلى قوله : { عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .

وقوله تعالى : { رَسُولَ الله } ، إنما هو إخبارٌ من اللَّه تعالى بصفةٍ لعيسى ، وهي الرسالةُ ، على جهة إظهار ذَنْب هؤلاء المُقِرِّين بالقَتْل ، ولزمهم الذنْبُ ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صَلَبُوا ذلك الشخْصَ ، على أنه عيسى ، وعلى أنَّ عيسى كَذَّابٌ ، ليس برَسُولِ اللَّه ، فلزمهم الذنْبُ مِنْ حيث اعتقدوا أنَّ قتلهم وَقَعَ في عيسى .

قال ( ص ) : و{ عيسى } بدلٌ أو عطفُ بيانٍ من { المسيح } ، و{ رَسُولَ الله } كذلك ، ويجوزُ أنْ يكون صفةً ل{ عيسى } ، وأنْ يكون نصباً على إضمار أعني .

قُلْتُ : وهذا الأخير أحسنها مِنْ جهة المعنى ، انتهى .

ثم أخبر سبحانه أنَّ بني إسرائيل ما قَتَلُوا عيسى ، { وما صَلَبوه ، ولكنْ شُبِّه لَهُمْ }[ النساء :157 ] واختلفتِ الرُّوَاةُ في هذه القصَّة ، والذي لا يُشَكُّ فيه أنَّ عيسى عليه السلام كان يَسِيحُ في الأَرْضِ ويدعو إلى اللَّه ، وكانَتْ بنو إسرائيل تَطْلُبُه ، ومَلِكُهُمْ في ذلك الزَّمَانِ يجعَلُ عليه الجَعَائِلَ ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريُّون يَسِيرُونَ معه حيثُ سار ، فلَمَّا كان في بعض الأوقات ، شُعِرَ بأمْر عيسى ، فَرُوِيَ أنَّ رجلاً من اليهود جُعِلَ له جُعْلٌ ، فما زال يَنْقُرُ عنه ، حتى دلَّ على مكانه ، فلما أحَسَّ عيسى وأصحابُهُ بتلاحُقِ الطَّالبين بهم ، دخلوا بَيْتاً بمرأى مِنْ بني إسرائيل ، فرُوِيَ أنهم عَدُّوهم ثلاثةَ عَشَرَ ، ورُوِيَ : ثمانيةَ عَشَرَ ، وحُصِرُوا لَيْلاً ، فرُوِيَ أنَّ عيسى فرق الحواريِّين عن نَفْسه تلك الليلةَ ، ووجَّههم إلى الآفاقِ ، وبقي هُوَ ورجُلٌ معه ، فَرُفِعَ عيسى وأُلْقِيَ شَبْهُهُ على الرجُلِ ، فَصُلِبَ ذلك الرجُلُ ، ورُوِيَ أنَّ الشَّبَهَ أُلْقِيَ على اليهوديِّ الذي دَلَّ عليه ، فَصُلِبَ ، وروي أنَّ عيسى عليه السلام لما أُحِيطَ بهم ، قال لأصْحَابِهِ : أَيُّكُمْ يلقى عَلَيْه شَبَهِي ، فَيُقْتَلُ ، ويُخَلِّصُ هؤلاءِ ، وهو رَفِيقي في الجَنَّةِ ؟ فقَالَ سِرْجِسُ : أَنَا ، فألقي عليه شبه عيسى ، وروي أنَّ شَبَهَ عيسى أُلْقِيَ علَى الجَمَاعَةِ كلِّها ، فلما أخرجهم بَنُو إسرائيل ، نقصوا واحداً مِنَ العِدَّة ، فأخذوا واحداً مِمَّنْ عليه الشَّبَهُ حَسَب هذه الرواياتِ التي ذكَرْناها ، فَصَلَبُوه ، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ والمتناوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عليهم أَمْرُ رَفْعِ عيسى ، لِمَا رأَوْه مِنْ نقصانِ العدَّة ، واختلاط الأمْرِ .

وقوله تعالى : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ . . . } [ النساء :157 ] .

يعني اختلافَ المحاولين لأخْذه ، لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد ، وتُحُدِّثَ برَفْع عيسَى اضطربوا واختلفوا ، لكنْ أجمعوا على صَلْبِ واحدٍ ، مِنْ غير ثقَةٍ ، ولا يقينٍ أنه هو .

وقولُه تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } قال ابن عَبَّاس ، وجماعةٌ : المعنى وما صَحَّ ظنُّهم عندهم ، ولا تحقَّقوه يقيناً ، فالضميرُ في ( قتلوه ) عندهم عائدٌ على الظَّنِّ ، كما تقُولُ : ما قَتَلْتُ هذا الأمْرِ عَلْماً ، قلْتُ : وعبارةُ السُّدِّيِّ : وما قَتَلُوا أمره يقيناً أنَّ الرجُلَ هو عيسَى ، انتهى من مختصر الطَّبَرِيِّ . وقال قومٌ : الضميرُ عائدٌ على عيسى ، أخبر سبحانه أنهم ما قَتَلُوهُ في الحقيقةِ جملةً واحدةً ، لا يقيناً ولا شكًّا ، لكنْ لما حصَلَتْ في ذلك الدعوى ، صَارَ قتله عنْدَهم مشْكُوكاً فيه ، وقال قوم مِنْ أهل اللسانِ : الكلامُ تامٌّ في قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ } ، و{ يَقِيناً } : مصدرٌ مؤكِّد للنفْي في قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ } ، المعنى : نخبرُكُمْ يقيناً ، أو نقصُّ عليكم يقيناً ، أو أَيْقَنُوا بذلك يَقيناً .

وقال ( ص ) : بعد كلام : والظاهرُ أنَّ الضمير في { قَتَلُوهُ } عائدٌ إلى عيسى لِتَتَّحِدَ الضمائرُ ، و{ يَقِيناً } : منصوبٌ في موضعِ الحالِ من فَاعِلِ { قَتَلُوهُ } : أي مستيقنين أنه عيسى ، أو نعت لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً . انتهى .