( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) .
وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب ، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود . وفي الآية الخامسة من السورة يجيء : ( خلق السماوات والأرض بالحق ) . فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض ، وأنزل به هذا الكتاب . الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض ؛ والذي ينطق به هذا الكتاب . الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود . .
( فاعبد الله مخلصاً له الدين ) .
والخطاب لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي أنزل إليه الكتاب بالحق . وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة . . عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد .
وتوحيد الله وإخلاص الدين له ، ليس كلمة تقال باللسان ؛ إنما هو منهاج حياة كامل . يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير ؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة .
والقلب الذي يوحد الله ، يدين لله وحده ، ولا يحني هامته لأحد سواه ، ولا يطلب شيئاً من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه . فالله وحده هو القوي عنده ، وهو القاهر فوق عباده . والعباد كلهم ضعاف مهازيل ، لا يملكون له نفعاً ولا ضراً ؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم . وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . والله وحده هو المانح المانع ، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء .
والقلب الذي يوحد الله ، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه . ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم ، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة .
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ؛ ويحس يد الله في كل ما حوله ، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه . ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله . خالق كل شيء ، ومحيي كل حي . ربه ورب كل شيء وكل حي . .
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ، كما تبدو في السلوك والتصرفات . وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً . ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان . ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله : وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ، في كل عصر ، وفي كل بيئة . فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك .
{ إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } أي : فاعبد الله وحده لا شريك له ، وادع الخلق إلى ذلك ، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده ، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد ؛ ولهذا قال : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي : لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله ، وحده لا شريك له .
وقوله : ( إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ ) : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، يعني بالكتاب : القرآن بالحقّ يعني بالعدل يقول : أنزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحقّ والعدل ، ومن ذلك الحقّ والعدل أن تعبد الله مخلِصا له الدين ، لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرّا ولا نفعا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : الكِتابَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ ) : يعني : القرآن .
وقوله : ( فاعْبُدِ اللّهِ مُخْلِصا لَهُ الدّينَ ) : يقول تعالى ذكره : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الألوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكا ، كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : يؤتي بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات ، فيقول ربّ العزّة جلّ وعزّ : صَلّيت يوم كذا وكذا ، ليقال : صلّى فلان أنا الله لا إله إلا أنا ، لي الدين الخالص . صمتَ يوم كذا وكذا ، ليقال : صام فلان أنا الله لا آله إلا أنا لي الدين الخالص ، تصدّقت يوم كذا وكذا ، ليقال : تصدّق فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص فما يزال يمحو شيئا بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء ، فيقول ملكاه : يا فلان ، ألغير الله كنت تعمل .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، أما قوله : ( مُخْلِصا لَهُ الدّينَ ) فالتوحيد ، والدين منصوب بوقوع مخلصا عليه .
{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ } :
و : { الكتاب } الثاني : هو القرآن لا يحتمل غير ذلك .
وقوله : { بالحق } يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون معناه متضمناً الحق ، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره . والثاني : أن يكون { بالحق } بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله .
وقوله تعالى : { فاعبد الله } يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة ، ويحتمل أن يكون كالجواب ، لأن قوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } جملة كأنه ابتداء وخبر ، كما لو قال : الكتاب منزل ، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء ، فجاءت الفاء كالجواب ، كما تقول : زيد قائم فأكرمه ، ونحو هذا :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقدير : هذه خولان : و : { مخلصاً } حال . و : { الدين } نصب به . ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل ، و { الدين } هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.