قوله تعالى : { خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم . { ثم جعل منها زوجها } يعني حواء . { وأنزل لكم من الأنعام } معنى الإنزال هاهنا الإحداث والإنشاء . كقوله تعالى :{ أنزلنا عليكم لباساً يواري } ( الأعراف-26 ) . وقيل : إنه أنزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس ، وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام ، وقيل :{ وأنزل لكم من الأنعام } جعلها لكم نزلاً ورزقاً { ثمانية أزواج } أصناف مر تفسيرها في سورة الأنعام . { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، كما قال الله تعالى :{ وقد خلقكم أطواراً } ( نوح-14 ) { في ظلمات ثلاث } قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة { ذلكم الله } أي : الذي خلق هذه الأشياء { ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون } عن طريق الحق بعد هذا البيان .
ومن تلك اللفتة إلى آفاق الكون الكبير ، ينتقل إلى لمسة في أنفس العباد ؛ ويشير إلى آية الحياة القريبة منهم في أنفسهم وفي الأنعام المسخرة لهم :
( خلقكم من نفس واحدة . ثم جعل منها زوجها . وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث . ذلكم الله ربكم له الملك . لا إله إلا هو فأنى تصرفون ? ) .
وحين يتأمل الإنسان في نفسه . نفسه هذه التي لم يخلقها . والتي لا يعلم عن خلقها إلا ما يقصه الله عليه . وهي نفس واحدة . ذات طبيعة واحدة . وذات خصائص واحدة . خصائص تميزها عن بقية الخلائق ، كما أنها تجمع كل أفرادها في إطار تلك الخصائص . فالنفس الإنسانية واحدة في جميع الملايين المنبثين في الأرض في جميع الأجيال وفي جميع البقاع . وزوجها كذلك منها . فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم الخصائص البشرية - رغم كل اختلاف في تفصيلات هذه الخصائص - مما يشي بوحدة التصميم الأساسي لهذا الكائن البشري . الذكر والأنثى . ووحدة الإرادة المبدعة لهذه النفس الواحدة بشقيها .
وعند الإشارة إلى خاصية الزوجية في النفس البشرية ترد الإشارة إلى هذه الخاصية في الأنعام كذلك . مما يشي بوحدة القاعدة في الأحياء جميعاً :
( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) :
والأنعام الثمانية كما جاءت في آية أخرى : هي الضأن والمعز والبقر والإبل . من كل ذكر وأنثى . وكل من الذكر والأنثى يسمى زوجاً عند اجتماعهما . فهي ثمانية في مجموعها . . والتعبير يعبر عن تسخيرها للإنسان بأنه إنزال لها من عند الله . فهذا التسخير منزل من عنده . منزل من عليائه إلى عالم البشر . ومأذون لهم فيه من عنده تعالى .
ثم يعود - بعد هذه الإشارة إلى وحدة خاصية الزوجية في الناس والأنعام - إلى تتبع مراحل الخلق للأجنة في بطون أمهاتها :
( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ) . .
من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام . إلى الخلق الواضح فيه عنصر البشرية .
ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين . وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس . وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم . ويد الله تخلق هذه الخلية الصغيرة خلقاً من بعد خلق . وعين الله ترعى هذه الخليقة وتودعها القدرة على النمو . والقدرة على التطور . والقدرة على الارتقاء . والقدرة على السير في تمثيل خطوات النفس البشرية كما قدر لها بارئها .
وتتبع هذه الرحلة القصيرة الزمن ، البعيدة الآماد ؛ وتأمل هذه التغيرات والأطوار ؛ وتدبر تلك الخصائص
العجيبة التي تقود خطى هذه الخلية الضعيفة في رحلتها العجيبة . . . في تلك الظلمات وراء علم الإنسان وقدرته وبصره . .
هذا كله من شأنه أن يقود القلب البشري إلى رؤية يد الخالق المبدع . رؤيتها بآثارها الحية الواضحة الشاخصة والإيمان بالوحدانية الظاهرة الأثر في طريقة الخلق والنشأة . فكيف يصرف قلب عن رؤية هذه الحقيقة ? :
( ذلكم الله ربكم له الملك . لا إله إلا هو . فأنى تصرفون ? ) . .
وقوله : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، وهو آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وهي حواء ، عليهما السلام ، كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [ النساء : 1 ] .
وقوله : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية ، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 144 ] .
وقوله : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : قدركم في بطون أمهاتكم { خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : يكون أحدكم أولا نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] .
وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } يعني : ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن . كذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم .
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يُذْهَبُ بعقولكم ؟ ! .
القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ :
يقول تعالى ذكره : ( خَلَقَكُمْ ) أيها الناس ( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني من آدم ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يقول : ثم جعل من آدم زوجه حواء ، وذلك أن الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه .
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني آدم ، ثم خلق منها زوجها حواء ، خلقها من ضِلَع من أضلاعه .
فإن قال قائل : وكيف قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ؟ وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته ، ولا شك أن الوالدين قبل الولد ، فإن في ذلك أقوالا أحدها أن يقال : قيل ذلك لأنه رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَأَخْرَجَ كُلَّ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، ثُمَّ أسْكَنَهُ بَعْدَ ذلك الجَنَّةَ ، وَخَلَقَ بَعْدَ ذلك حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أضْلاعِهِ " فهذا قول . والآخر : أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين ، فيرد الأول منهما في المعنى بثم ، إذا كان من خبر المتكلم ، كما يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ، ثم ما كان منك أمس أعجب ، فذلك نسق من خبر المتكلم . والوجه الآخر : أن يكون خلقه الزوج مردودا على واحدها ، كأنه قيل : خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها ، فيكون في واحدة معنى : خلقها وحدها ، كما قال الراجز :
أعْدَدْتُهُ للْخَصْمِ ذِي التَّعَدِّي *** كَوَّحْتَهُ مِنْكَ بِدُونِ الجَهْدِ
بمعنى : الذي إذا تعدى كوّحته ، ومعنى : كوحته : غلبته .
والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب ، وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال : إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حوّاء ، وبذلك جاءت الرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والقولان الآخران على مذاهب أهل العربية .
وقوله : ( وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يقول تعالى ذكره : وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين ، ومن البقر زوجين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعْز اثنين ، كما قال جل ثناؤه : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ، ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) قال : من الإبل والبقر والضأن والمعز .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) من الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، من كلّ واحد زوج .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يعني من المعز اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الإبل اثنين .
وقوله : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) يقول تعالى ذكره : يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، وذلك أنه يحدث فيها نطفة ، ثم يجعلها علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ، ثم يُنْشئه خلقا آخر ، تبارك الله وتعالى ، فذلك خلقه إياه خلقا بعد خلق .
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : نطفة ، ثم ما يتبعها حتى تم خلقه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم لحما ، ثم أنبت الشعر ، أطوار الخلق .
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : يعني بخلق بعد الخلق ، علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : يكونون نطفا ، ثم يكونون علقا ، ثم يكونون مضغا ، ثم يكونون عظاما ، ثم ينفخ فيهم الروح .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) خلق نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم ، قالوا : فذلك هو الخلق من بعد الخلق .
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : خلقا في البطون من بعد الخلق الأول الذي خلقهم في ظهر آدم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله عكرمة ومجاهد ، ومن قال في ذلك مثل قولهما ، لأن الله جلّ وعزّ أخبر أنه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمهاتنا في ظلمات ثلاث ، ولم يخبر أنه يخلقنا فى بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم ، وذلك نحو قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً . . . الآية .
وقوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) يعني : في ظلمة البطْن ، وظلمة الرّحِم ، وظُلْمة المَشِيمَة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك : حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : الظلمات الثلاث : البطن ، والرحم ، والمَشِيمة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : البطن ، والمشيمة ، والرحم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : يعني بالظلمات الثلاث : بطن أمه ، والرحم ، والمَشِيمة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : البطن ، والرحم والمشيمة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) المَشِيمة ، والرحم ، والبطن .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : ظلمة المشيمة ، وظلمة الرحم ، وظلمة البطن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : المشيمة في الرحم ، والرحم في البطن .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) : الرحم ، والمشيمة ، والبطن ، والمشيمة التي تكون على الولد إذا خرج ، وهي من الدواب السَّلى .
وقوله : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعل هذه الأفعال أيها الناس هو ربكم ، لا من لا يجلب لنفسه نفعا ، ولا يدفع عنها ضرّا ، ولا يسوق إليكم خيرا ، ولا يدفع عنكم سوءا من أوثانكم وآلهتكم .
وقوله : ( لَهُ الْمُلْكُ ) يقول جلّ وعزّ : لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف لكم ، وقُدرته ما بين لكم المُلك ، ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره ، فأما ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهما شيئا دون شيء ، فإنما له خاص من الملك . وأما المُلك التام الذي هو المُلك بالإطلاق فلله الواحد القهار .
وقوله : ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى ذكره : لا ينبغي أن يكون معبود سواه ، ولا تصلح العبادة إلا له ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى ذكره : فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم ، الذي هذه الصفة صفته ، إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) قال : كقوله : ( تُؤْفَكُونَ )
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) قال للمشركين : أنى تصرف عقولكم عن هذا ؟
«النفس الواحدة » المرادة في الآية هي نفس آدم عليه السلام ، قاله قتادة وغيره . ويحتمل أن يكون اسم الجنس .
وقوله تعالى : { ثم جعل } ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق الخلق منها ، وليس الأمر كذلك .
واختلف الناس في تأويل هذا الظاهر ، فقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء ، وقالت فرقة : إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني . كأنه قال : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [ أبو النواس ] : [ الخفيف ]
قل من ساد ثم ساد أبوه*** ثم قد ساد قبل ذلك جدُّه
وقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى ، فلما كان ذلك أمراً حتماً واقعاً ولا بد ، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة ، ثم عطف عليها حالة جعل الزوجة منها ، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما يجيء بعد ذلك ، وزوج آدم حواء عليهما السلام ، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي ، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه : ( أن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ) . وقالت فرقة : خلقت حواء من بقية طين آدم والأول أصح ، وقد تقدم شرح ذلك ، وقوله تعالى : { وأنزل لكم } قيل معناه : أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في السماء وأهبط إلى الأرض ، وقالت فرقة : بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله ، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء عبر عن هذه ب { أنزل } ، وقالت فرقة : لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب والنبات عن المطر ، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها ، قال في هذه { أنزل } فهو على التدريج كما قال الراجز :
أسنمة الآبال في ربابه . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكما قال الشاعر [ عمرو بن حبان ] : [ الطويل ]
تعالى الندى في متنه وتحدرا*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجعلها { ثمانية } ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه ، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل .
وقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث } قال ابن زيد ، معناه : يخلقكم في البطون خلقاً من بعد خلق آخر في ظهر آدم وظهور الآباء . وقال مجاهد وعكرمة والسدي : يخلقكم في البطون رتباً خلقاً من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك .
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف : { يخلقكم } بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن . وقرأ الجمهور : { أُمهاتكم } بضم الهمزة . وقرأ يحيى بن وثاب : بكسرها وهي لغتان .
وقوله : { في ظلمات ثلاث } قالت فرقة : الأولى هي ظهر الأب ، ثم رحم الأم ، ثم المشيمة في البطن . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هي المشيمة والرحم والبطن ، وهذه الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره ، وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها . ثم قال تعالى لهم : { ذلكم الله ربكم } وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة { فأنى تصرفون } ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب ؟