قوله تعالى : { وأحيط بثمره } أي : أحاط العذاب بثمر جنته ، وذلك أن الله تعالى أرسل عليها ناراً فأهلكتها وغار ماؤها { فأصبح } صاحبها الكافر{ يقلب كفيه } أي : يصفق بيده على الأخرى ، ويقلب كفيه ظهراً لبطن ، تأسفاً وتلهفاً ، { على ما أنفق فيها وهي خاوية } أي ساقطة { على عروشها } سقوفها { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } .
وفجأة ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار . ومن هيئة البطر ، والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار . فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن :
( وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ، وهي خاوية على عروشها ، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) . .
وهو مشهد شاخص كامل : الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء . والجنة خاوية على عروشها مهشمة محطمة . وصاحبها يقلب كفيه أسفا وحزنا على ماله الضائع وجهده الذاهب . وهو نادم على إشراكه بالله ، يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته . ومع أنه لم يصرح بكلمة الشرك ، إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضية غير قيمة الإيمان كان شركا ينكره الآن ، ويندم عليه ويستعيذ منه بعد فوات الأوان .
يقول تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } بأمواله ، أو بثماره على القول الآخر . والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر ، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان{[18191]} على جنته ، التي اغتر بها{[18192]} وألهته عن الله ، عز وجل { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة : يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً } .
يقول تعالى ذكره : وأحاط الهلاك والجوائح بثمره ، وهي صنوف ثمار جنته التي كان يقول لها : ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا فأصبح هذا الكافر صاحب هاتين الجنتين ، يقلب كفّيه ظهرا لبطن ، تلهفا وأسفا على ذهاب نفقته التي أنفق في جنته وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها يقول : وهي خالية على نباتها وبيوتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ : أي يصفق كَفيه عَلى ما أنْفَقَ فِيها متلهفا على ما فاته .
وَ هو يقول يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أحَدا ويقول : يا ليتني ، يقول : يتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدا ، يعني بذلك : هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله ، ودّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئا .
{ وأُحيط بثمره } وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه وأنذره منه ، وهو مأخوذ من أحاط به العدو فإنه إذا أحاط به غلبه وإذا غلبه أهلكه ، ونظيره أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم . { فأصبح يقلّب كفّيه } ظهرا لبطن تلهفا وتحسرا . { على ما أنفق فيها } في عمارتها وهو متعلق ب { يقلب } لان تقليب الكفين كناية عن الندم فكأنه قيل : فأصبح يندم ، أو حال أي متحسرا على ما أنفق فيها . { وهي خاوية } ساقطة . { على عروشها } بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها عليها . { ويقول } عطف على { يقلب } أو حال من ضميره . { يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً } كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه أتى من قبل شركة فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يهلك الله بستانه ، ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما سبق منه .
كان صاحبه المؤمن رجلاً صالحاً فحقق الله رجاءه ، أو كان رجلاً محدّثاً من محدّثي هذه الأمة ، أو من محدّثي الأمم الماضية على الخلاف في المعنيّ بالرجلين في الآية ، ألهمهُ الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر .
وإنما لم تعطف جملة { وأحيط } بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن ، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقاباً له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن .
والإحاطة : الأخذ من كل جانب ، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم . وقد تقدمت في قوله تعالى : { إلا أن يحاط بكم } في سورة يوسف ( 66 ) وقوله : { إن ربك أحاط بالناس } في سورة الإسراء ( 60 ) .
والمعنى : أُتلف ماله كله بأن أُرسل على الجنة والزرع حُسبانٌ من السماء فأصبحت صعيداً زلقاً وهلكت أنعامه وسُلبت أمواله ، أو خسف بها بزلزال أو نحوه .
وتقدم اختلاف القراء في لفظ { ثُمر } آنفاً عند قوله تعالى : { وكان له ثمر } [ الكهف : 34 ] .
وتقليب الكفين : حركة يفعلها المتحسر ، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسراً على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة . فهو كناية عن التحسر ، ومثله قولهم : قرَع السن من نَدم ، وقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران : 119 ] .
والخاوية : الخالية ، أي وهي خالية من الشجر والزرع ، والعُروش : السُقُف . و ( على ) للاستعلاء . وجملة { على عروشها } في موضع الحال من ضمير { خاوية } .
وهذا التركيب أرسله القرآن مثلاً للخرَاب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه . وتقدم في قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } في سورة البقرة ( 259 ) ، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها ، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسُقف ، ثم جعل ذلك مثلاً لكل هلاك تام لا تبقى معه بقية من الشيء الهالك .
وجملة { ويقول } حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب .
والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه .
وحرف النداء مستعمل في التلهف . و ( ليتني ) تمننٍ مراد به التندم . وأصل قولهم ( يا ليْتنِي ) أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل ، كأنه يخاطب كلمة ( ليت ) يقول : احضُري فهذا أوانك ، ومثله قوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } سورة الزمر ( 56 ) .
وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذٍ .