قوله عز وجل : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد } ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق . { هل من محيص } فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وقيل : هل من محيص مفر من الموت ؟ فلم يجدوا فيه إنذار لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفراً عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة ، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن ، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع . فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين . وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين . وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد . ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب :
( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ، فنقبوا في البلاد هل من محيص ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب . فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب . يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير . يوم تشقق الأرض عنهم سراعا . ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون ، وما أنت عليهم بجبار ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . .
ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة ، إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع . بهذا التركيز وبهذه السرعة . ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة . وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة !
قال من قبل : ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود ، وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد ) . .
وقال هنا : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ، فنقبوا في البلاد . هل من محيص )?
الحقيقة التي يشير إليها هي هي . ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى . ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد ، وتنقب عن أسباب الحياة ، وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد ، ولا مفر منها ولا فكاك : ف ( هل من محيص )? . .
يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين{[27365]} : { مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي : كانوا أكثر منهم وأشد قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } قال ابن عباس : أثروا فيها . وقال مجاهد : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } : ضربوا في الأرض . وقال قتادة : فساروا في البلاد ، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد : نقب فيها . قال امرؤ القيس :
لقد نَقَّبْتُ في الآفاق حَتّى *** رضيتُ من الغَنِيمة بالإيَابِ{[27366]}
وقوله : { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص .
وقوله : وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون ، هُمْ أشَدّ من قريش الذين كذّبوا محمدا بَطْشا فَنّقُبوا في البِلادِ يقول : فَخَرَقُوا البلادَ فساروا فيها ، فطافوا وتوغّلوا إلى الأقاصي منها قال امرؤ القَيس :
لقَدْ نَقّبْتُ فِي الاَفاقِ حتّى *** رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإيابِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : أثّروا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : يقول : عملوا في البلاد ذاك النقْب . ذكر من قال ذلك :
وقوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يقول جلّ ثناؤه : فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا . وأضمرت كان في هذا الموضع ، كما أضمرت في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ التي أخْرَجَتْك أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ بمعنى : فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم . وقرأت القرّاء قوله فَنَقّبُوا بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم . وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك «فَنَقِبُوا » بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد : أي طوّفوا في البلاد ، وتردّدوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله مِنْ مَحِيصٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ . . . حتى بلغ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتّبِعا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : حاص أعداء الله ، فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : هل من منجي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.