قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قال الكلبي : عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصامه شكراً لله عز وجل .
قوله تعالى : { فأتوا } فمروا .
قوله تعالى : { على قوم يعكفون } يقيمون ، قرأ حمزة والكسائي { يعكفون } بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان .
قوله تعالى : { على أصنام } أوثان .
قوله تعالى : { لهم } ، يعبدونها من دون الله . قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر ، وذلك أول شأن العجل ، قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولاً بالرقة ، فقالت بنو إسرائيل ما رأوا ذلك { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً } أي : مثالاً نعبده .
قوله تعالى : { كما لهم آلهة } ، ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله ، وإنما معناه : اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله ، وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة ، وكان ذلك لشدة جهلهم .
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرُ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب : يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم ؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم . . إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين - الذي أهلك عدوهم ؛ وشق لهم البحر ؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين ، عاكفين على أصنام لهم ، مستغرقين في طقوسهم الوثنية ؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد ، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد !
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) !
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة ، ضعيفة الروح ، ما تكاد تهتدي حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد ، وتصلب عن الحق ، وقساوة في الحس والشعور ! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك ، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين ! وهؤلاء كانوا وثنيين ، وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم : ( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ ) ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم : رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة ! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل ! . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين ، لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه ! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب :
ولم يقل تجهلون ماذا ؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل . . الجهل من الجهالة ضد المعرفة ، والجهل من الحماقة ضد العقل ! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة ؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد ؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر ؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس ، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله ، أو يعرض عن ذلك كله ، إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا " العلم " كما يدعيه الكثيرون !
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى ، عليه السلام ، حين جاوزوا البحر ، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا ، { فَأَتَوْا } أي : فمروا { عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } قال بعض المفسرين : كانوا من الكنعانيين . وقيل : كانوا من لخم .
قال ابن جريج : وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر ، فلهذا أثار{[12083]} ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك ، فقالوا : { يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : تجهلون عظمة الله وجلاله ، وما يجب أن ينزه{[12084]} عنه من الشريك والمثيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىَ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىَ أَصْنَامٍ لّهُمْ قَالُواْ يَمُوسَىَ اجْعَلْ لّنَآ إِلََهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الاَيات التي أريناهموها والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى ، فلم تزجرهم تلك الاَيات ولم تعظهم تلك العبر والبينات حتى قالوا مع معاينتهم من الحجج ما يحقّ أن يذكر معها البهائم ، إذ مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، يقومون على مثل لهم يعبدونها من دون الله ، اجعل لنا يا موسى إلها ، يقول : مثالاً نعبده وصنما نتخذه إلها ، كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها ، ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار . وقال موسى صلوات الله عليه : إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجب حقه عليكم ، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج : وَجاوَزْنا بِبَنِي إسْرَائِيلَ البَحْرَ فأتَوْا على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أصْنامٍ لَهُمْ قال ابن جريج : على أصنام لهم ، قال : تماثيل بقر ، فلما كان عجل السامريّ شبه لهم أنه من تلك البقر ، فذلك كان أوّل شأن العجل قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قال إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ .
وقيل : إن القوم الذين كانوا عكوفا على أصنام لهم ، الذين ذكرهم الله في هذه الاَية ، قوم كانوا من لخم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا بشر بن عمرو ، قال : حدثنا العباس بن المفضل ، عن أبي العوّام ، عن قتادة : فَأتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أصْنامٍ لَهُمْ قال : على لخم ، وقيل إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم .
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري أن أبا واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل حنين ، فمررنا بِسْدرَة ، قلت : يا نبيّ الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اللّهُ أكْبَرُ هَذَا كمَا قالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهمْ آلهَةٌ ، إنّكُمْ سَترْكَبُونَ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن سنان ابن أبي سنان ، عن واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا نبيّ الله اجعل لنا هذه ذات أنواط ، فذكر نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سنان ابن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا ابن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي ، عن أبي واقد الليثي : أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، قال : وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط قال : «قُلْتُمْ وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما قالَ قَوْمُ مِوسَى : اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أنّها السّنَنُ لَترْكَبُنّ سُننَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ » .