قوله تعالى : { يا قومنا أجيبوا داعي الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم } من صلة ، أي ذنوبكم ، { ويجركم من عذاب أليم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلاً من الجن ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن والإنس جميعاً . قال مقاتل : لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعاً . واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن ، فقال قوم : ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار ، وتأولوا قوله : { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه . وحكى سفيان عن ليث قال : الجن ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا تراباً ، وهذا مثل البهائم . وعن أبي الزناد قال : إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن : عودوا تراباً فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : { يا ليتني كنت تراباً } ( النبأ-40 ) . وقال الآخرون : يكون لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس ، وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى . وقال جرير عن الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . وذكر النقاش في تفسيره حديث أنهم يدخلون الجنة . فقيل : هل يصيبون من نعيمها : قال : يلهمهم الله تسبيحه وذكره ، فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة . وقال أرطأة بن المنذر : سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن ثواب ؟ قال : نعم ، وقرأ : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } ( الرحمن- 56 و74 ) ، قال فالإنسيات للإنس والجنيات للجن . وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمني الجن حول الجنة ، في ربض ورحاب ، وليسوا فيها ، يعني في الجنة .
ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع ، الذي يحس أن عليه واجبا في النذارة لا بد أن يؤديه :
( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم ) . .
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن ؛ واعتبروا محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] داعيا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له : فنادوا قومهم : ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) . .
وآمنوا كذلك بالآخرة ، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب . فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ يا قَوْمَنا من الجنّ أجِيبُوا دَاعِيَ اللّهِ قالوا : أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله وآمِنُوا بِهِ يقول : وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه ، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به يَغْفِرْ لَكُمْ يقول : يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الاَخرة بعقوبته إياكم عليها ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ إلِيمٍ يقول : وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم ، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ "يا قَوْمَنا "من الجنّ "أجِيبُوا دَاعِيَ اللّهِ" قالوا: أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله "وآمِنُوا بِهِ" يقول: وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به، "يَغْفِرْ لَكُمْ" يقول: يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها "ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيم" يقول: وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه.
ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا {يا قومنا أجيبوا داعي الله} واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه؟ والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف. واعلم أن قوله {أجيبوا داعي الله} فيه مسألتان: المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس، قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله. المسألة الثانية: قوله {أجيبوا داعي الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله {وملائكته ورسله وجبريل} وقوله {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله {يغفر لكم من ذنوبكم}، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال بعضهم كلمة {من} هاهنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذنوبكم، وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة {من} هاهنا لابتداء الغاية، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل. المسألة الثانية: اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم، واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى: {ويجركم من عذاب أليم} وهو قول أبي حنيفة، والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة، قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بين البابين بعيد جدا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا قومنا} الذين لهم قوة العلم والعمل {أجيبوا داعي الله} أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال...
{وآمنوا به} أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر...
{يغفر لكم}: فإنه يستر ويسامح {من ذنوبكم} أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام...
{ويجركم} أي يمنعكم إذا أجبتم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه {من عذاب أليم} واقتصارهم على المغفرة تذكير بذنوبهم لأن مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله في هذه السورة- {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132] في إثبات الثواب، ونقله أبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{مِن} في قوله: {من ذنوبكم} الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل {أجيبوا} باعتبار أنه مجاب بفعل {يغفر}، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازاً في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة {من} في الإثبات كما تزاد في النفي. وأما {مِن} التي في قوله: {ويُجِرْكُم من عذاب أليم} فهي لتعدية فعل {يجركم} لأنه يقال: أجاره من ظلم فلان، بمعنى منعه وأبعده...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به، وبما جاء به، من الحق غفر الله له ذنوبه. وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها، أعني مفهوم مخالفتها، والمعروف بدليل الخطاب، أن من لم يجب داعي الله من الجن، ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره، من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار...