تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (31)

{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه {[26594]} إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ؛ ولهذا قال{[26595]} { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ }

وقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل : إن " من " هاهنا زائدة وفيه نظر ؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل ، وقيل : إنها على بابها للتبغيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : ويقيكم من عذابه الأليم .

وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : حدثت عن جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لا يدخل مؤمنو الجن الجنة ؛ لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة .

والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة{[26596]} من السلف ، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 74 ] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 46 ، 47 ] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس ، فقالوا : " ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد " فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار - وهو مقام عدل - فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة - وهو مقام فَضْل - بطريق الأولى والأحرى . ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [ الكهف : 107 ] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ، ولله الحمد والمنة . وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا ، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة . ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن {[26597]} الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح ، عليه السلام ، يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ نوح : 4 ] ، {[26598]} ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عُمَر بن عبد العزيز : أنهم لا يدخلون بُحْبُوحَةَ الجنة ، وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها . ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا . ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ، عِوَضا عن الطعام والشراب كالملائكة ، لأنهم من جنسهم . وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها .


[26594]:- (4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
[26595]:- (5) في م: "قالوا".
[26596]:- (6) في ت، أ: "طائفة".
[26597]:- (1) في أ: "من".
[26598]:- (2) في ت، أ: "ويجركم" وهو خطأ.