فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (31)

{ يا قومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَءامِنُواْ به } يعنون : محمداً صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي بعضها ، وهو ما عدا حقّ العباد ، وقيل : «إن » من هنا لابتداء الغاية . والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى ، وقيل هي زائدة { وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وهو عذاب النار ، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي . وقال الحسن : ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار ، وبه قال أبو حنيفة . والأوّل أولى ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وابن أبي ليلى . وعلي القول الأوّل ، فقال القائلون به : أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا تراباً ، كما يقال للبهائم والثاني أرجح . وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 46 ، 47 ] فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولا ينافي هذا الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار ، وهو مقام عدل ، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة ، وهو مقام فضل ، ومما يؤيد هذا أيضاً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة ، وجزاء من عمل الصالحات الجنة ، وجزاء من قال لا إله إلاّ الله الجنة ، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة .

وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا ؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط ، كما في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] . وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ العنكبوت : 27 ] ، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم ، فهو من ذرّيته ، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام : { يا معشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] فقيل : المراد من مجموع الجنسين ، وصدق على أحدهما ، وهم الإنس : كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما .

/خ35