السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (31)

{ يا قومنا } الذين لهم قوة العلم والعمل { أجيبوا داعي الله } أي : الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال . فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق ، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره وفي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن ، كما كان مبعوثاً إلى الإنس { وآمنوا به } أي : أوقعوا التصديق بسبب الداعي ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا بسبب آخر فإن المفعول معه مفعول مع الله تعالى .

فإن قيل قوله تعالى : { أجيبوا داعي الله } أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال وآمنوا به ؟ ! أجيب بأنه إنما ذكر الإيمان على التعيين ، لأنه أهمّ الأقسام وأشرفها وقد جرت العادة في القرآن العظيم بأن يذكر اللفظ العام ، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه ، كقوله تعالى { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } ( البقرة : 98 ) وقوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } ( الأحزاب : 7 )

ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى : { يغفر لكم } أي : الله تعالى { من ذنوبكم } أي : بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها ، مما أشار إليه قوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ( الشورى : 30 ) وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها ، وقيل : { من } زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل : بل فائدته أن كلمة { من } هنا لابتداء الغاية ، والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل { ويجركم } أي : يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه . { من عذاب أليم } «قال ابن عباس : فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم » .

تنبيه : اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ويقال لهم : كونوا تراباً ، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى { ويجركم من عذاب أليم } وهو قول أبي حنيفة .

والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً نحو ذلك قال الضحّاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن ، والفرق بينهما بعيد جداً وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة ، فقيل : هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب ؟ قال : نعم وقرأ { لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ } ( الرحمان : 56 ) وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها » .