قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } ، بطاعته وترك معصيته .
قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } ، قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات ، وقال عكرمة : نجاة ، أي يفرق بينكم وبين ما تخافون ، وقال الضحاك : بياناً ، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل ، يظهر الله به حقكم ، ويطفئ بطلان من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . قوله تعالى : { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم .
( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال ، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله :
( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ، ويكفر عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم ) .
هذا هو الزاد ، وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة : أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ؛ والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ؛ والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل ، ووضح الحق ، وتكشف الطريق ، واطمأن القلب ، واستراح الضمير ، واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ؛ والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش ، ويحجب الرؤية ، ويُعمي المسالك ، ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله ، ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة ، ويرفع اللبس ، ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما ( الفضل العظيم ) . .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب( الكريم )ذو الفضل العظيم !
القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ صدقوا الله ورسوله إنْ تَتّقُوا اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، وترك خيانته ، خيانة رسوله وخيانة أماناتكم يَجْعَلْ لَكُم فُرْقانا : يقول : يجعل لكم فصلاً وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين بنصره إياكم عليهم ، وإعطائكم الظفر بهم . ويُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ يقول : ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه . ويَغْفِرْ لَكُمْ يقول : ويغطيها ، فيسترها عليكم ، فلا يؤاخذكم بها . وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ يقول : والله الذي يفعل ذلك بكم ، له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله ، وإن فعله جزاء منه لعبده على طاعته إياه ، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعده عليها .
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا فقال بعضهم : مخرجا ، وقال بعضهم : نجاة ، وقال بعضهم : فصلاً . وكلّ لك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات عنها ، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغني عن إعادته . ذكر من قال : معناه المخرج :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور : عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : مخرجا في الدنيا والاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : الفرقان المخرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فُرْقانا يقول : مخرجا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصريّ ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فُرْقانا قال : مخرجا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : سمعت عبيدا يقول : سمعت الضحاك يقول : فُرْقانا : مخرجا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد ، عن زهير ، عن جابر : عن عكرمة ، قال : الفرقان : المخرج . ذكر من قال : معناه النجاة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن رجل ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال عكرمة : المخرج ، وقال مجاهد : النجاة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا يقول : يجعل لكم نجاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي نجاة .
. . . يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : فرقان يفرق في قلوبهم بين الحقّ والباطل ، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي فصلاً بين الحقّ والباطل ، يظهر به حقكم ويخفي به باطل من خالفكم .
والفرقان في كلام العرب مصدر ، من قولهم : فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما قَرْقا وفُرْقانا .
وقوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و { ويجعل لكم فرقاناً } معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان » مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله { يوم الفرقان }{[5295]} وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان ها هنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه : مخرجاً ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا*** أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا{[5296]}
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ*** بعد قطينٍ رحلوا وبانوا{[5297]}
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي*** وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان{[5298]}