( ومن شر النفاثات في العقد ) . . والنفاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر . وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء !
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها . ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر . وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام : سورة طه ( قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال : بل ألقوا . فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا : لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . . . ) .
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا ، ولكن خيل إلى الناس - وموسى معهم - أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة ، حتى جاءه التثبيت . ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة .
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها . وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه . . مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد . . وهي شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .
وقد وردت روايات - بعضها صحيح ولكنه غير متواتر - أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة . . قيل أياما ، وقيل أشهرا . . حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية ، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود - كما أخبر في رؤياه - وقرأ السورتين انحلت العقد ، وذهب عنه السوء .
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك . ومن ثم تستبعد هذه الروايات . . وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة . والمرجع هو القرآن . والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد . وهذه الروايات ليست من المتواتر . فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح . مما يوهن أساس الروايات الأخرى .
وقوله : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } يقول : ومن شرّ السواحر اللاتي ينفُثن في عُقَد الخيط ، حين يَرْقِين عليها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } قال : ما خالط السّحر من الرّقَى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن { وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } قال : السواحر والسّحَرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } قال : إياكم وما خالط السّحر من هذه الرّقَى .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رُقْية المجانين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول إذا جاز{ وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي العُقَدِ } قال : إياكم وما خالط السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرِمة { النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } قال : قال مجاهد : الرّقى في عُقَد الخيط ، وقال عكرِمة : الأخذ في عقد الخيط .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ } قال : النفاثات : السواحر في العقد .
{ ومن شر النفاثات في العقد } ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق ، وتخصيصه لما روي أن يهوديا سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر فمرض النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر ، فأرسل عليا رضي الله تعالى عنه فجاء به ، فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ؛ لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر ، وقيل : المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل ، مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها ، وإفرادها بالتعريف ؛ لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد .
هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله : { من شر ما خلق } [ الفلق : 2 ] . وعُطف { شر النفاثات في العقد } على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحَرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد .
والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل ، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعَقدوا عليه عُقَداً ثم نفثوا عليها .
فالمراد ب { النفاثات في العقد } : النساء الساحرات ، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحرَ النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة ، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتَّكهن ونحو ذلك ، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن ، وكان العرب يزعمون أن الغُول ساحرةٌ من الجِن . وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتُّهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعَا له السوَاحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائماً على وجهه ولحق بالوحوش .
و{ العُقد } : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وَتَر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة ، ولذلك يخافون من حَلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة ، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور ، قال تعالى : { وقال الظالمون إنْ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [ الفرقان : 8 ] .
وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها .
وأمّا السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى : { يعلِّمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفْث ، فلم يقل : إذا نفثن في العقد ، للإِشارة إلى أن نفثهن في العُقد ليس بشيء يجلب ضراً بذاته وإنما يجلب الضر النافثاتُ وهن متعاطيات السحر ، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئاً مما يحقق له ما يعمله لأجله إلاّ احتال على إيصاله إليه ، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد ، أو قاذورات يُفسد اختلاطُها بالجسد بعضَ عناصر انتظام الجسم يختلّ بها نشاط أعصابه أو إرادته ، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليُرِي لمن يسألونه السحر أن سحره لا يتخلف ولا يخطىء .
وتعريف { النفاثات } تعريف الجنس وهو في معنى النكرة ، فلا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله : { ومن شر غاسق } [ الفلق : 3 ] وقوله : { ومن شر حاسد } [ الفلق : 5 ] . وإنما أوثر لفظ { النفاثات } بالتعريف لأن التعريف في مثله للإِشارة إلى أن حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم : « أرسلها العراك » كما تقدم في قوله تعالى : { الحمد للَّه } في سورة الفاتحة ( 2 ) .
وتعريف { النفاثات } باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب .