اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

قوله : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } ، النَّفَّاثات : جمع نفاثة ، مثال مبالغة من نفث ، أي : نفخ ، واختلف فيه .

فقال أبو الفضل : شبه النفخ من الفم بالرقية ، ولا شيء معه .

قال عنترة : [ الوافر ]

5369- فإنْ يَبْرَأ فلمْ أنفُثْ عليْهِ *** وإنْ يُفْقَدْ فحُقَّ لهُ الفُقُودُ{[61155]}

وقال الزمخشري{[61156]} : «النفخُ مع ريق » .

وقرأ الحسن{[61157]} : «النُّفَّاثات » بضم النون ، وهو اسم كالنفاثة . ويعقوب وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر وعبد الله بن القاسم : «النافثات » ، وهي محتملة لقراءة العامة .

والحسن{[61158]} وأبو الربيع : «النفثات » دون ألف محاذر وحذر ، ونكّر غاسقاً وحاسداً ؛ لأنه قد يتخلف الضرر فيهما ؛ فإن التنكير للتبعيض ، وعرف النفاثات إما للعهد كما يروى في التفسير ، وإما للمبالغة في الشَّر .

فصل في معنى النَّفَّاثات

قال المفسرون : يعني السَّاحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها .

قال أبو عبيدة : النفاثات هي بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الشاعر : [ المتقارب ]

5370- أعُوذُ بربِّي مِنَ النَّافِثَا *** تِ في عِضَهِ العَاضهِ المُعْضِهِ{[61159]}

وقال متمم بن نويرة : [ السريع ]

5371- نَفَثْتُ فِي الخيْطِ شَبيهَ الرُّقَى *** مِنْ خَشْيةِ الجِنَّة والحَاسدِ{[61160]}

فصل

روى النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَقَدَ عُقدةً ثُمَّ نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلَّق شيئاً وكلَ إليْهِ »{[61161]} .

واختلف في النَّفث عند الرقى : فمنعه قوم ، وأجازه آخرون .

قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، ولا يمسح ، ولا يعقد{[61162]} .

قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث من الراقي ، والصحيح الجواز ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية .

وروي محمد بن حاطب أن يده احترقت ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل ينفث عليها ، ويتكلم بكلام ، وزعم أنه لم يحفظه .

وروي أن قوماً لدغ فيهم رجل ، فأتوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل فيكم من راقٍ ؟ فقالوا : لا ، حتى تجعلوا لنا شيئاً ، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقى ويتفل حتى برئ ، فأخذوها ، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال : وما يدريكم أنها رقية ؟ خذوا واضربوا لي معكم سهماً .

وأما ما روي عن عكرمة فكأنه ذهب فيه إلى أن النفث في العقد مما يستعاذ به ، بخلاف النفث بلا عقد .

قال ابن الخطيب{[61163]} : هذه الصناعة إنما تعرف بالنِّساء ؛ لأنهن يعقدن في الخيط ، وينفثن ، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر ، وإحكام الهمَّة والوهم فيه ، وذلك إنما يتأتَّى من النساء لقلة عملهن ، وشدة شهوتهن ، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى .


[61155]:ينظر ديوان عنترة (32)، وشرح ديوان الحماسة للتبرزي 1/162، ومجاز القرآن والقرطبي 20/176، والبحر 8/532، والدر المصون 6/592.
[61156]:الكشاف 4/821.
[61157]:ينظر: البحر المحيط 8/533، والدر المصون 6/592.
[61158]:ينظر : البحر المحيط 8/533، والدر المصون 6/592.
[61159]:ينظر القرطبي 20/176.
[61160]:ينظر القرطبي 20/176.
[61161]:أخرجه النسائي (7/112)، من حديث أبي هريرة.
[61162]:ينظر تفسير القرطبي (20/176).
[61163]:ينظر الفخر الرازي 32/179.