السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك ، عقب ذلك بقوله تعالى : { ومن شرّ النفاثات في العقد } ، أي : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط ، وينفثن عليها ، ويرقين عليها ، والنفث : النفخ مع ريق . وقال أبو عبيدة : النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي ، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : ما معنى الاستعاذة من شرّهن ؟ أجيب بثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهنّ في ذلك .

ثانيها : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ ، وما يخدعنهم به من باطلهنّ .

ثالثها : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى : { إنّ كيدكنّ عظيم } [ يوسف : 28 ] ، تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم ، وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك .

تنبيه : اختلف في النفث في الرقي ، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ويدل عليه حديث عائشة قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين » .

وروى محمد بن حاطب : «أنّ يده احترقت ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل ينفث عليها ، ويتكلم بكلام ، زعم أنه لم يحفظه » .

وروي «أنّ قوماً لدغ رجل منهم ، فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل فيكم من راق ؟ قالوا : لا ، حتى تجعلوا لنا شيئاً ، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ ، فأخذوه ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : وما يدريك أنها رقية ؟ خذوا ، واضربوا لي معكم بسهم » .

وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي ، وأجازوا النفخ بلا ريق . وقال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد .

وقيل : إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان ، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر ، وليس بمذموم ولا مكروه ؛ بل هو مندوب إليه .