النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

{ ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ } قال أهل التأويل : من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر ، قال الشاعر :

أعوذ بربي من النافثا *** تِ في عِضَه العاضه المعْضِه{[3380]}

وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك ، طلباً للشفاء ، كما قال متمم بن نويرة :

نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى *** من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ .

وقد روى الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه " .

والنفث : النفخ في العقد بلا ريق ، والتفل : النفخ فيها بريق .

وفي { شر النفاثات في العقد } ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه إيهام للأذى ، وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض ، إلا استشعار ربما أحزن ، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية .

الثاني : أنه قد يؤذي بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور ، فيؤثر فيه كتأثير العين ، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله .

الثالث : أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن ، يمتحن الله بعض عباده .

فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم ، وأن قوماً من اليهود سحروه ، وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها .

روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة ، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : ما شكواه ؟ فقال الآخر : مطبوب ، ( أي مسحور ، والطب : السحر ) قال : ومن طبّه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ، فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها ، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة ، فأمر بحل العقد ، فكان كلما حل عقدة وجد راحة ، حتى حلت العقد كلها ، فكأنما أنشط من عقال ، فنزلت عليه المعوذتان ، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد ، وأمر أن يتعوذ بهما{[3381]} .

وأنكره آخرون ، ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره ، لما في استمراره عليه من خبل العقل ، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول : { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } .


[3380]:العضه: كعنب الكذب والسحر والبهتان، والعاضه: الساحر. وقد جاء البيت في اللسان مادة عضه، غير منسوب.
[3381]:أخرجه البيهقي في دلائل النبوة والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن سعد والحكام وعبد ابن حميد وابن مردويه. وقال ابن القيم: هذا الحديث ثابت عند أهل العلم.