ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها لظهور ضررها ، وعسر الاحتياط منها ، فلا بد من الفزع إلى الله ، والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه :{ ومن شر النفاثات في العقد } . قال ابن جرير{[7594]} :أي ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل ، فعن مجاهد : الرقى في عقد الخيط ، وعن طاووس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين ، ومثله عن قتادة والحسن . وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط ، وينفثن عليها ، ويرقين . والنفث : النفخ مع ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثم إطعامهن شيء ضار ، أو سقيه ، أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن ، وإلى نفثهن ، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ، ولا يعبؤون به .
فإن قلت : فما الاستعاذة من شرهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك .
والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن ، وما يخدعنهم به من باطلهن .
الثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن . انتهى .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله قال : النفاثات النساء ، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال ، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا ، فمعنى الآية : إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال ينصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ، ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن ، كقوله{[7595]} { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } ، كذلك عظم الله كيدهن فقال{[7596]} { إن كيدكن عظيم } .
تنبيه : قال الشهاب : نقل في ( التأويلات ) عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلوات الله عليه المروي هنا متروك ، لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه ، ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول{[7597]} :{ والله يعصمك من الناس } ، وقال{[7598]} { ولا يفلح الساحر حيث أتى } ، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا على ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب ، ومعلوم أن ذلك غير جائز . انتهى .
ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرجا في الصحاح ، وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى ، كما يعرفه الراسخون ، على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة .
قال الإمام الغزالي في ( المستصفى ) : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ورد خبر الواحد ، كرد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة ( بروع بنت واشق ) ، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث ، وكرد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، وظهر من عمر نهيه أبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك مما ذكر ، أورد ذلك الغزالي في مباحث ( خبر الآحاد في شبه المخالفين فيه ) ، وذكر رحمه الله في ( مباحث الإجماع ) إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد لأدلة ظاهرة قامت عندهم .
وقال الإمام ابن تيمية في ( المسودة ) : الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده لاعتقاده غلط الناقل ، أو كذبه ؛ لاعتقاده الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا ، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث ، انتهى .
وقال العلامة الفناري في ( فصول البدائع ) : ولا يضلل جاحد الآحاد ، والمسألة معروفة في الأصول ، وإنما توسعت في نقولها ؛ لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري ، وضلل منكر ، فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول ، لا بل بأصول مذهبه كما رأيت عن الفناري ، ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا ، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبرا فيه ؟ وقد برهن على مدعاه ، وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه .
وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا ، وقد أوسع المقال فيه شراح ( الصحيح ) ، وابن قتيبة في شرح ( تأويل مختلف الحديث ) ، والرازي ، والحق لا يخفى على طالبه ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.