محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها لظهور ضررها ، وعسر الاحتياط منها ، فلا بد من الفزع إلى الله ، والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه :{ ومن شر النفاثات في العقد } . قال ابن جرير{[7594]} :أي ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل ، فعن مجاهد : الرقى في عقد الخيط ، وعن طاووس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين ، ومثله عن قتادة والحسن . وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط ، وينفثن عليها ، ويرقين . والنفث : النفخ مع ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثم إطعامهن شيء ضار ، أو سقيه ، أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن ، وإلى نفثهن ، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ، ولا يعبؤون به .

فإن قلت : فما الاستعاذة من شرهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك .

والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن ، وما يخدعنهم به من باطلهن .

الثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن . انتهى .

وفي الآية تأويل آخر ، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله قال : النفاثات النساء ، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال ، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا ، فمعنى الآية : إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال ينصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ، ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن ، كقوله{[7595]} { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } ، كذلك عظم الله كيدهن فقال{[7596]} { إن كيدكن عظيم } .

تنبيه : قال الشهاب : نقل في ( التأويلات ) عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلوات الله عليه المروي هنا متروك ، لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه ، ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول{[7597]} :{ والله يعصمك من الناس } ، وقال{[7598]} { ولا يفلح الساحر حيث أتى } ، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا على ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب ، ومعلوم أن ذلك غير جائز . انتهى .

ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرجا في الصحاح ، وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى ، كما يعرفه الراسخون ، على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة .

قال الإمام الغزالي في ( المستصفى ) : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ورد خبر الواحد ، كرد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة ( بروع بنت واشق ) ، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث ، وكرد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، وظهر من عمر نهيه أبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك مما ذكر ، أورد ذلك الغزالي في مباحث ( خبر الآحاد في شبه المخالفين فيه ) ، وذكر رحمه الله في ( مباحث الإجماع ) إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد لأدلة ظاهرة قامت عندهم .

وقال الإمام ابن تيمية في ( المسودة ) : الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده لاعتقاده غلط الناقل ، أو كذبه ؛ لاعتقاده الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا ، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث ، انتهى .

وقال العلامة الفناري في ( فصول البدائع ) : ولا يضلل جاحد الآحاد ، والمسألة معروفة في الأصول ، وإنما توسعت في نقولها ؛ لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري ، وضلل منكر ، فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول ، لا بل بأصول مذهبه كما رأيت عن الفناري ، ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا ، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبرا فيه ؟ وقد برهن على مدعاه ، وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه .

وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا ، وقد أوسع المقال فيه شراح ( الصحيح ) ، وابن قتيبة في شرح ( تأويل مختلف الحديث ) ، والرازي ، والحق لا يخفى على طالبه ، والله أعلم .


[7594]:انظر الصفحة رقم 353 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).
[7595]:64/ التغابن / 14.
[7596]:12/يوسف/28.
[7597]:5 / المائدة/ 67.
[7598]:20 / طه / 69.