إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

{ وَمِن شَرّ النفاثات فِي العقد } أيْ وَمِنْ شَرِّ النفوسِ أو النساءِ السواحرِ اللاتِي يعقدنَ عُقَداً في خيوطٍ ويَنْفُثنَ عليهَا . والنفثُ : النفخُ معَ ريقٍ ، وقيلَ : بدونِ ريقٍ .

وقُرِئَ ( النافثاتُ ) ، كما قُرِئَ ( النفثاتُ ) بغيرِ ألفٍ .

وتعريفُهَا إمَّا للعهدِ ، أوْ للإيذانِ بشمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِنَّ ، وتمحضهنَّ فيهِ ، وتخصيصُهُ بالذكرِ لما رَوَى ابْنُ عبَّاسٍ وعائشةُ رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ كانَ غلامٌ من اليهودِ يخدمُ النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وكانَ عندَهُ أسنانٌ منْ مشطِهِ عليهِ السلامُ ، فأعطَاهَا اليهودَ فسحرُوهُ عليهِ السلامُ فيهَا ، وتولاَّهُ لبيْدُ بنُ الأَعصمِ اليهوديُّ وبناتُهُ ، وهُنَّ النافثاتُ في العقدِ ، فدفَنَها في بئرِ أريسٍ ، فمرضَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ، فنزلَ جبريلُ عليهِ السلامُ بالمعوذتينِ ، وأخبرَهُ بموضعِ السحرِ ، وبمَنْ سحرَهُ ، وبمَ سحرَهُ ، فأرسلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ علياً -كرمَ الله وجْهَهُ- والزبيرَ وعمَّاراً رضيَ الله عنْهُما فنزحُوا ماءَ البئرِ ، فكأنَّهُ نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ، ثمَّ رفعُوا راعوثةَ{[872]} البئرِ- وهيَ الصخرةُ التي توضعُ في أسفلِ البئرِ - فأخرجُوا منْ تحتِهَا الأسنانَ ومعَها وترٌ قدْ عُقِدَ فيهِ إحدَى عشرةَ عقدةً مغرزةً بالأبرِ ، فجاءُوا بهَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فجعلَ يقرأُ المعوذتينِ عليهَا ، فكانَ كلَّما قرأَ آيةً انحلتْ عقدةٌ ، ووجدَ عليهِ السلامُ خفةً ، حتَّى انحلتْ العقدةُ الأخيرةُ عندَ تمامِ السورتينِ ، فقامَ عليهِ السلامُ كأنَّما أنشطَ مِنْ عقالٍ فقالُوا : يا رسولَ الله ، أفلا نقتلُ الخبيثَ ؟ فقالَ عليهِ السلامُ : «أمَّا أنَا فقَد عافانِي الله عزَّ وجلَّ ، وأكرَهُ أنْ أثيرَ عَلى الناسِ شَراً »{[873]} . قالتْ عائشةُ رضيَ الله عنهَا : ما غضبَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ غضباً ينتقمُ لنفسِهِ قطُّ إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً هُو لله تَعَالَى ، فيغضبُ لله وينتقمُ . وقيلَ : المرادُ بالنفثِ في العُقَدِ إبطالُ عزائمِ الرجالِ بالحيلِ ، مستعارٌ مِنْ تليينِ العقدةِ بنفثِ الريقِ ليسهلَ حلُّها .


[872]:يقال لراعوفة البئر راعوثة وهي صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت تكون هناك ويقال هي حجر يكون على رأس البئر يقوم عليها المستقي.
[873]:أخرجه البخاري في كتاب الطب باب (47، 50)؛ وابن ماجه في كتاب الطب باب (45)؛ كما أخرجه أحمد في المسند (6/57، 63، 64).