{ 14-15 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ }
يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة{[622]} الأمم المكذبة ، وأن اللّه أرسل عبده ورسوله نوحا عليه الصلاة السلام إلى قومه ، يدعوهم إلى التوحيد وإفراد اللّه بالعبادة ، والنهي عن الأنداد والأصنام ، { فَلَبِثَ فِيهِمْ } نبيا داعيا { أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } وهو لا يَنِي بدعوتهم ، ولا يفتر في نصحهم ، يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، فلم يرشدوا ولم يهتدوا ، بل استمروا على كفرهم وطغيانهم ، حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصلاة والسلام ، مع شدة صبره وحلمه واحتماله ، فقال : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } { فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } أي : الماء الذي نزل من السماء بكثرة ، ونبع من الأرض بشدة { وَهُمْ ظَالِمُونَ } مستحقون للعذاب .
وقوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً } الآية قصة فيها تسلية لمحمد عليه السلام عما تضمنته الآية قبلها من تعنت قومه وفتنتهم للمؤمنين وغير ذلك ، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح ، والواو في قوله { ولقد } عاطفة جملة كلام على جملة ، والقسم فيها بعيد{[9223]} ، وقوله تعالى : { أرسلنا } ، { فلبث } ، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولاً يدعو ، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة أقامته في قومه من لدن مولده إلى غرق قومه{[9224]} ، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنيه التي بعث عندها ، فقيل أربعون ، وقيل ثمانون ، وقال عون بن أبي شداد{[9225]} : ثلاثمائة وخمسون ، وكذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير .
وقد روي أنه عمر بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاماً وأنه عاش ألف سنة وستمائة وخمسين سنة{[9226]} ، وقوله تعالى : { فأخذهم الطوفان } يقتضي أنه أخذ قومه فقط ، وقد اختلف في ذلك فقالت فرقة : إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح ، وقالت فرقة : هي الجمهور : إنما غرقت المعمورة كلها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو ظاهر الأمر لاتخاذه السفينة ولبعثه الطير يرتاد زوال الماء ولغير ذلك من الدلائل ، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض ، فالوجه في ذلك أن يقال : إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بأن لا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى ، وإنما هو بأن لا يؤخذ بقتال غيرها ولا ببث العبادات فيهم ، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة والناس حولها يعبدون الأوثان ولم يكن الناس يومئذ كثيراً بحكم القرب من آدم فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله كان قد بلغ الكل فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم ، و { الطوفان } العظيم الطامي ، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت ومنه قول الشاعر :
فجاءهم طوفان موت جارف . {[9227]} . . و «طوفان » وزنه فعلان بناء مبالغة من طاف يطوف إذا عم من كل جهة ، ولكنه كثر استعماله في الماء خاصة وقوله تعالى : { وهم ظالمون } ، يريد بالشرك .
سيقت هذه القصة واللاتي بعدها شواهد على ما لقي الرسل والذين آمنوا معهم من تكذيب المشركين كما صرح به قوله عقب القصتين { وإن تُكذّبوا فقد كذّب أمم من قبلكم } [ العنكبوت : 18 ] على أحد الوجهين الآتيين .
وابتدئت القصص بقصة أول رسول بعثه الله لأهل الأرض فإن لأوليات الحوادث وقعاً في نفوس المتأمّلين في التاريخ ، وقد تقدم تفصيل قصته في سورة هود .
وزادت هذه الآية أنه لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة . وظاهر الآية أن هذه مدة رسالته إلى قومه ولا غرض في معرفة عمره يوم بعثه الله إلى قومه ، وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ، وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم وأوثر تمييز { ألف } ب { سنة } لطلب الخفة بلفظ { سنة } ، وميز { خمسين } بلفظ { عاماً } لئلا يكرر لفظ { سنة } .
والفاء من قوله : { فأخذهم الطوفان } عطف على { أرسلنا } كما عطف عليه { فلبث } وقد طوي ذكر ما ترتب عليه أخذهم بالطوفان وهو استمرار تكذيبهم .
وجملة { وهم ظالمون } حال ، أي أخذهم وهم متلبسون بالظلم ، أي الشرك وتكذيب الرسول ، تلبساً ثابتاً لهم متقرراً وهذا تعريض للمشركين بأنهم سيأخذهم عذاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} يدعوهم إلى الإيمان بالله عز وجل فكذبوه، {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} يعني الماء طغى على كل شيء، فأغرقوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش، القائلين للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا، ولنحمل خطاياكم، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم، فإن مصير أمرهم إلى البوار، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب، كفعلنا ذلك بنوح، إذ أرسلناه إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وفراق الآلهة والأوثان، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلاّ فرارا...
"فأخذهم الطوفان"، يقول تعالى ذكره: فأهلكهم الماء الكثير، وكلّ ماء كثير فاش طامّ، فهو عند العرب طوفان، سيلاً كان أو غيره... وقوله: "وَهُمْ ظالِمُونَ "يقول: وهم ظالمون أنفسهم بكفرهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره، وجهلا بحاله، ومرْية في صدقه، ولم يزدد نوح -عليه السلام- لهم إلاَّ نُصْحاً، وفي الله إلا صبراً. ولقد عرَّفه اللَّهُ أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً، وَصَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه.. فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة.
فإن قلت: هلا قيل: تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره.
نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وأيضا كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان السياق للبلاء والامتحان، والصبر على الهوان، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش، فقال عاطفاً على {ولقد فتنا الذين من قبلهم} ما هو كالشرح له، وله نظر عظيم إلى
{ولقد وصلنا لهم القول} [القصص: 51] وأكده دفعاً لوهم من يقول: إن القدرة على التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب {نوحاً} أي أول رسل الله الخافقين من العباد، وهو معنى {إلى قومه} فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء بلاء بهم، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً: {فلبث فيهم} أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله، وعظم الأمر بقوله: {ألف} فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه، وعبر بلفظ {سنة} ذماً لأيام الكفر، وقال: {إلا خمسين} فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة...
ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل على الامتثال وعدم الملال، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له: {فأخذهم} أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة {الطوفان} أي من الماء، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلئ كثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها، والمراد هنا الماء {وهم ظالمون} أي عريقون في هذا الوصف، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام، بتكذيبهم رسولهم، وإصرارهم على كفرهم، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس لقلتهم لا يعدون.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. وقد أشار إلى الفتنة بالأذى، والفتنة بالقرابة، والفتنة بالإغواء والإغراء. وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح عليه السلام. يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية. مفصلا بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط، مجملا فيما عداها. وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن، ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة. ففي قصة نوح -عليه السلام- تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم لم يؤمن له إلا القليل (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).. وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال. فقد حاول هداهم ما استطاع، وجادلهم بالحجة والمنطق: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه). وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها، وسفورها بلا حياء ولا تحرج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ؛ مع الاستهتار بالنذير: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين).. وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل، والتكذيب: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين). وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة. كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال، واستبداد الحكم، وتمرد النفاق. ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله، وهي مهما علت واستطالت (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون). وينتهي هذا الشوط بدعوة الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يتلو الكتاب، وأن يقيم الصلاة، وأن يدع الأمر بعد ذلك لله (والله يعلم ما تصنعون)..