البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما كان يلقى من أذى الكفار .

فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه .

والواو في { ولقد } واو عطف ، عطفت جملة على جملة .

قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره .

والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله .

وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه . انتهى .

وليس عندي محتملاً ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافاً مضطرباً متكاذباً ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير .

والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه .

ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاماً ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي .