نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

ولما كان السياق للبلاء والامتحان ، والصبر على الهوان ، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي ، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء ، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى ، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش ، فقال عاطفاً على { ولقد فتنا الذين من قبلهم } ما هو كالشرح له ، وله نظر عظيم إلى

{ ولقد وصلنا لهم القول }[ القصص : 51 ] وأكده دفعاً لوهم من يقول : إن القدرة على التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب : { ولقد أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب { نوحاً } أي أول رسل الله الخافقين من العباد ، وهو معنى { إلى قومه } فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض ، وكان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء بلاء بهم ، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً : { فلبث فيهم } أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله ، وعظم الأمر بقوله : { ألف } فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه ، وعبر بلفظ { سنة } ذماً لأيام الكفر ، وقال : { إلا خمسين } فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة ، وقال : { عاماً } إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً يإيمان المؤمنين وخصب الأرض .

ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل على الامتثال وعدم الملال ، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له : { فأخذهم } أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة { الطوفان } أي من الماء ، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلىء كثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها ، والمراد هنا الماء { وهم ظالمون* } أي عريقون في هذا الوصف ، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام ، بتكذيبهم رسولهم ، وإصرارهم على كفرهم ، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس لقلتهم لا يعدون ؛