فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون14 فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين15 }

بعث الله تعالى رسوله نوحا عليه السلام إلى قومه ليوحدوا ربنا الخلاق العليم ويعبدوه ، ويدعوا أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة ) . . فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . ( {[3177]} )أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . . ( {[3178]} ، ومكث يدلهم على الهدى ، ويحذرهم عاقبة الشرك : ) . . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم( {[3179]} ، ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم( {[3180]} ، وصبر- عليه صلوات الله وسلامه- على تبليغ رسالة ربه ، وتابع تبشير من يتقي ويوحد ، وإنذار من يشرك ويجحد ، ومرت قرون وهو دائب على الترغيب في عبادة الله وتقواه ، والترهيب من عصيانه وتأليه ما سواه ، فما زادهم التذكير بحق الله إلا بعدا ، تسعمائة وخمسون سنة ونوح يبين الرشد لقومه ، وما آمن معه إلا قليل ، إنه لصبر أولي العزم من الرسل ، فلما استحبوا العمى على الهدى ، وأصروا على الغي ، واستكبروا عن الحق ، حانت ساعة الانتقام ، وتأذن ربنا بإهلاك المجرمين ، وإغراق الكافرين ، والطوفان : كل ماء فاش طام ، والقرآن الكريم يشير إلى عظمه وهوله في آيات كريمات : )ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر( {[3181]} ، كما يبين مقدار طغيان الطوفان وبأسه في قول الحق الواحد القهار : )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين( {[3182]} ، ولما جاء أمر الله ، ورأى نوح ما جعله ربنا علامة على نزول البأس بساحة المجرمين ، وفار التنور إيذانا برحيل النبي والمؤمنين ، أوحى مولانا –الكبير المتعال- إلى نوح نبيه ورسوله أن يركب السفينة التي صنعها منذ عهد إليه مولاه : )واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون( {[3183]} كما نودي أن يجعل معه في السفينة من كل من نبات الأرض وحيوانها زوجين اثنين- ذكر وأنثى- وأن يركب معه أهل التصديق برسالته ، وليطمئنوا بعد ذلك إلى أن سفينتهم- مهما اشتدت الأنواء- ناجية ، وليستبشروا وإن علا الموج كالجبال ، فإن وليهم الله رب العالمين ، وهو سبحانه بالمؤمنين بر رحيم ، وإن ربنا لمع المتوكلين المتضرعين المتقين ، وإلى هذا أرشد الوحي الحكيم : )فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين( {[3184]} ، وجرت سفينتهم باسم الله الخبير البصير ، القوي القدير ، وسيرها- سبحانه- برعايته حتى أهلك الفجار ، )وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين( {[3185]} ، وكان هلاك المجرمين ، وإنجاء الله المؤمنين ، علامة على صدق المرسلين ، وعظة للمعتبرين ، وإنفاذا لسنن المهيمن الذي لا تتبدل سنته ولا تتحول : )إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين( {[3186]} )ولقد تركناها آية فهل من مدكر( {[3187]} ، وجعلها الحميد المجيد نعمة أن نجى الأسلاف والآباء ، يقول تبارك اسمه : )وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون( {[3188]} ، ويقول- جل علاه- : )إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية . لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية( {[3189]}- مما أورد صاحب [ روح المعاني . . ] : للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء ، وحثا لهم على الصبر ، فإن الأنبياء عليهم السلام . . صبروا . . فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى . . وهو من عطف القصة على القصة . . والنكتة في اختيار السنة أولا : أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام ، فناسب اختيار السنة لزمان الدعوى الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى . اه .


[3177]:سورة المؤمنون. من الآية 23.
[3178]:سورة نوح. الآية 3، ومن الآية 4.
[3179]:سورة الأحقاف. من الآية 21.
[3180]:سورة هود. الآية 39.
[3181]:سورة القمر. الآيتان 11، 12.
[3182]:سورة هود. الآيتان 42، 43.
[3183]:سورة هود. الآية 37.
[3184]:سورة المؤمنون. الآيتان 28، 29.
[3185]:سورة هود. الآية 44.
[3186]:سورة المؤمنون. الآية 30.
[3187]:سورة القمر. الآية 15.
[3188]:سورة يس. الآيتان 41، 42.
[3189]:سورة الحاقة. الآيتان: 11، 12.