اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه . . . } لما بين التكليف ، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم ، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى : { ولقد فتنا الذين من قبلهم } ، فذكر من الذين كلفوا{[41148]} قبله نوح عليه ( الصلاة و ) السلام وقومه ، وإبراهيم عليه ( الصلاة و ){[41149]} السلام وغيرهما .

قوله : «ألْفَ سَنَةٍ » منصوب على الظرف { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } منصوب على الاستثناء . وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف . وللمانعين عنه{[41150]} جواب عن هذه الآية ، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول «سنة » ، وفي «الثاني » عاماً ، لئلا يثقل اللفظ{[41151]} ، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما استراح{[41152]} منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام ، وعن الجَدْب بالسنة{[41153]} .

فصل :

قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي{[41154]} ، فإذا قال القائل : لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال : عليّ سبعة ، إذا علم هذا فقوله : { ألف سنة إلا خمسين عاماً } كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها ؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان{[41155]} ، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب ، فإن من قال : عاش فلان ألفَ سنة ( يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة ){[41156]} تقريباً لا تخفيفاً ، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ، وقد يفهم منه التحقيق . الفائدة الثانية : هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه ( الصلاة و ) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه ( الصلاة و ) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ ( دُعَائِهِ ) .

قوله : «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ » فغرقوا «وَهُمْ ظَالِمُونَ » قال ابن عباس : مشركون . وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ، فقوله : «وهم ظالمون » يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم .

قوله : { فأنجيناه وأصحاب السفينة } يعني من الغرق ، «وجعلناها » يعني السفينة «آية للعالمين » أي عبرة ، وفي كونها آية وجوه :

أحدُها : كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة .

وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه ، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد ( نُضُوبَه ) . ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة .

وثالثها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية ، ولولا ذلك لما حصل النجاة{[41157]} ، وقيل : «الهاء » في «جَعَلْنَاهَا » راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق .

فصل :

قال ابن عباس بُعِثَ نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً ، وعاش بعد الطُّوفَان ستينَ سنة حتى كثر الناس وفَشَوْا ، وكان عمره ألفاً وخَمْسِينَ سنةً{[41158]} ، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة ، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة{[41159]} ، فإذا كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة ، وأما قبره عليه ( الصلاة و ){[41160]} السلام فروى ابن جرير{[41161]} ، والأزرقي{[41162]} حديثاً مرسلاً أن قبر نوح عليه ( الصلاة و ){[41163]} السلام بالمسجد الحرام{[41164]} . وقيل : ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك{[41165]} ، والأول أقوى وأثبت .


[41148]:في "ب" فذكر الذين كلفوا قبل نوح.
[41149]:زيادة من ب.
[41150]:أثبتت في كلتا النسختين وفي نسخ كثيرة بهذا اللفظ "عنه"، وقد أوردها السمين في الدر المصون 4/297 بلفظ "منه" وهو الصواب.
[41151]:انظر: البحر 7/145 والكشاف 3/200 قال: "فإن قلت: لم جاء المميز أولاً بالسنة، وثانياً بالعام؟ قلت: لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة".
[41152]:في "ب" أراح وهو تحريف.
[41153]:تفسير الدر المصون للسمين 4/298.
[41154]:انظر: تفسير الفخر الرازي 25/41.
[41155]:نقله الفخر الرازي عن الزمخشري ولم أجده في الكشاف بلفظه المنقول. انظر: الكشاف 3/200.
[41156]:ما بين المعقوفين ساقط من "ب".
[41157]:انظر: الفخر الرازي 25/41.
[41158]:رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، انظر: زاد المسير 6/261.
[41159]:لم أعثر على هذه الرواية في الكتب المعتمدة، وقد قال ابن كثير: "وقول ابن عباس أقرب والله أعلم"، انظر: تفسير ابن كثير 3/407.
[41160]:زيادة من "ب".
[41161]:ابن جرير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي الطبري أبو جعفر، الإمام، صاحب التصانيف المشهورة له تفسير القرآن وكتاب تهذيب الآثار، مات سنة 310 هـ، انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/110، 117.
[41162]:الأزرقي: لم أعثر عليه.
[41163]:زيادة من "ب".
[41164]:معالم التنزيل للبغوي.
[41165]:المرجع السابق.