فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وعمره أربعون سنة أو أكثر ، وبينه وبين آدم{[1353]} ألف سنة : أجمل سبحانه قصة نوح تصديقا لقوله في أول السورة { ولقد فتنا الذين من قبلهم } { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إن نوحا لبث هذه المدة الكثيرة يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فصبر وما ضجر ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك ، وكثرة عدد أمتك ، قيل : ووقع في النظم :

{ إلا خمسين عاما } ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين سنة ، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه وذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض . وجيء بالمميز أولا بالسنة ، ثم بالعام ، لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله لما استراح منهم بقي في زمن حسن ، والعرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة .

وقد اختلف في مقدار عمر نوح عليه السلام ، وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة ، وهي لا تدل على أنها جميع عمره ، فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم ، وقد تلبث في الأرض من بعد هلاكهم بالطوفان ، فقال ابن عباس : بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة كثر الناس ، وفشوا .

وعن عكرمة قال : كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه ، وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة ، وعن عوف بن شداد قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين سنة وثلثمائة سنة ، فلبث فيهم ألف إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة ، وقال أبو السعود : عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين سنة وأربعين وعن أنس ابن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال كرجل دخل بيتا له بابان فقال{[1354]} في وسط البيت هنية ثم خرج من الباب الآخر .

{ فأخذهم الطوفان } أي الماء الكثير ، طاف بهم وعلاهم فغرقوا ، وارتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا ، وقيل : خمسة حتى غرق كل شيء غير من في السفينة والفاء للتعقيب ، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة ، والطوفان يقال لكل شيء كثير ، مطيف بجمع : محيط بهم ، من مطر أو قتل أو موت ، قاله النحاس . وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والسدي : وهو المطر ، وقال الضحاك الغرق ، وقيل : الموت ، قال الشهاب ، ولكنه غلب في الماء كما هو المراد هنا .

{ وهم ظالمون } أي مستمرون على الظلم والشرك ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها .


[1353]:لا دليل على هذا التحديد من كتاب ولا سنة. المطيعي.
[1354]:قال بمعنى القيلولة، وهي النوم في الظهيرة، تقول: قال يقيل قيلولة (معجم الصحاح للجوهري، باب اللام، فصل القاف،5/1808، طبعة دار العلم للملايين، بيروت.