الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة ، بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب : أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة .

فإن قلت : هلا قيل : تسعمائة وخمسين سنة ؟ قلت : ما أورده الله أحكم . لأنه لو قيل كما قلت ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد ، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، وفيه نكتة أخرى : وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له ، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه ، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره .

فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام ؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك . و { الطوفان } ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة ، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما . قال العجاج :

وَغَمَّ طُوفَانُ الظَّلاَمِ الأَثْأَبَا ***