قوله تعالى :{ تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } قال الحسن ومجاهد وقتادة : البروج : في النجوم الكبار ، سميت بروجاً لظهورها ، وقال عطية العوفي : بروجاً أي : قصوراً فيها الحرس ، كما قال : { ولو كنتم في بروج مشيدة } وقال عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة ، وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل . وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس مثلثه نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثه أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثه هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثه مائية . { وجعل فيها سراجاً } يعني الشمس ، كما قال : { وجعل الشمس سراجاً } وقرأ حمزة والكسائي : سرجاً بالجمع ، يعني النجوم . { وقمراً منيراً } والقمر قد دخل في السرج على قراءة من قرأ بالجمع ، غير أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة ، كما قال : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في الفاكهة .
{ 61 - 62 } { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }
كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله : { تَبَارَكَ } ثلاث مرات لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة الباري وكثرة أوصافه ، وكثرة خيراته وإحسانه . وهذه السورة فيها من الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته . وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا } وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة وهي بمنزلة البروج والقلاع للمدن في حفظها ، كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين .
{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور والحرارة وهو الشمس . { وَقَمَرًا مُنِيرًا } فيه النور لا الحرارة وهذا من أدلة عظمته ، وكثرة إحسانه ، فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها ، وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على كثرة خيراته .
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته ، و «البروج » هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة{[8864]} وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله { والقمر قدرناه منازل }{[8865]} [ يس : 39 ] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجاً تشبيهاً ببروج السماء . ومنه قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيّدة }{[8866]} [ النساء : 78 ] . وقال الأخطل : [ البسيط ]
كأنها برج روميّ يشيدُه . . . لز بجص وآجور وأحجار{[8867]}
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها «البروج » القصور في الجنة ، وقال الأعمش : كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «في السماء قصوراً » ، وقيل «البروج » الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح ، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص ، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به . وقرأ الجمهور «سراجاً » وهي الشمس ، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش «سرجاً » وهو اسم جميع الأنوار ، ثم خص القمر بالذكر تشريفاً ، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضاً «سرْجاً » بسكون الراء ، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن «وقُمُراً » بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعاً كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي{[8868]} .
استئناف ابتدائي جعل تمهيداً لقوله { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة ، وافتتحت كل دعامة منها ب { تبارك الذي . . . } إلخ كما تقدم في صدر السورة . وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع . وتقدم { تبارك } أول السورة ( 1 ) وفي قوله { تبارك الله رب العالمين } في الأعراف ( 54 ) .
والبروج : منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون . وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } في أول سورة الحجر ( 16 ) .
والامتنان بها لأن الناس يُوقّتون بها أزمانهم .
وقرأ الجمهور سراجاً } بصيغة المفرد . والسراج : الشمس كقوله : { وجعل الشمس سراجاً } في سورة نوح ( 16 ) . ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة . . . } [ الفرقان : 62 ] .
وقرأ حمزة والكسائي { سُرُجاً } بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم ، فيكون امتناناً بحسن منظرها للناس كقوله { ولقد زيّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] . والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج : المصباح الزاهر الضياء . والمقصود : أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج ، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر .
ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل ، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.