اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا} (61)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً } الآية .

لما حكى مزيد نفور الكفار عن السجود ، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن فقال{[36546]} : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً } تقدم القول في «تَبَارَكَ »{[36547]} ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية{[36548]} عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها ، لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور .

وقال عطية العوفي : البروج هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، وهذا أولى لقوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا } أي : في البروج{[36549]} فإن قيل : لم لا{[36550]} يجوز أن يكون قوله «فيها » راجعاً إلى السماء دون البروج ؟

فالجواب : لأن البروج أقرب ، فعود{[36551]} الضمير إليها أولى{[36552]} .

وروى عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر{[36553]} .

قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } . قرأ الجمهور{[36554]} بالإفراد ، والمراد به الشمس لقوله تعالى : { وَجَعَلَ{[36555]} الشمس سِرَاجاً }{[36556]} [ نوح : 16 ] ، ويؤيده أيضاً ذكر القمر بعده . والأخوان «سُرُجاً » بضمتين جمعاً{[36557]} نحو حُمُر في حِمَار ، وجمع باعتبار الكواكب النيرات{[36558]} ، وإنما ذكر القمر تشريفاً له كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامهما في الملائكة . وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة{[36559]} «وقُمْراً » بضمة وسكون{[36560]} وهو جمع قَمْراء{[36561]} كحُمْر في حَمْرَاء ، والمعنى : وذا ليال قمر منيراً ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزاً ، ولو لم يعتبره لقال : منيرة ، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان :

يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمْ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ{[36562]}

الأصل : ماء بردى ، فحذفه{[36563]} ثم راعاه في قوله : ( يصفق ) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك لقال : تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله :

وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَها{[36564]} *** . . .

مع أن ابن كيسان{[36565]} يجيزه سعة{[36566]} .

وقال بعضهم : لا يبعد أن يكون القُمْر بمعنى القَمَر كالرُّشد والرَّشد{[36567]} .


[36546]:في ب: فقال تعالى.
[36547]:في أول السورة.
[36548]:في ب: ورواه.
[36549]:انظر الفخر الرازي 24/106.
[36550]:في ب: لم.
[36551]:في ب: فيعود. وهو تحريف.
[36552]:انظر الفخر الرازي 24/106.
[36553]:انظر البغوي 6/189.
[36554]:غير حمزة والكسائي. انظر السبعة (466).
[36555]:في ب: وجعلنا. وهو تحريف.
[36556]:[نوح: 16].
[36557]:السبعة (466)، الكشف 2/146، النشر 2/334، الإتحاف (330).
[36558]:في ب: النيران.
[36559]:عصمة: سقط من ب.
[36560]:انظر المختصر (105)، البحر المحيط 6/511، الإتحاف (330).
[36561]:القمراء: ضوء القمر، وليلة مقمرة، وليلة قمرة ومقمرة. اللسان (قمر).
[36562]:البيت من بحر الكامل، قاله حسان بن ثابت، وهو في ديوانه (365)، الكشاف 3/103. ابن يعيش 3/25، 6/133، اللسان (برص، سلسل)، البحر المحيط 6/511. الأشموني 2/272، الخزانة 4/381، الدرر 2/64، البريص: اسم واد. بردى: نهر بدمشق، وألف للتأنيث. يصفق: يمزج. الرحيق: الخمر. السلسل من الماء: العذب أو البارد، ومن الخمر اللينة. والشاهد فيه حذف المضاف وهو قوله: ماء. وإقامة المضاف إليه وهو قوله بردى مقامه، ثم أعاد الكلام إلى المضاف المحذوف فقال: يصفق بالياء، ولو لم يعتبر المضاف المحذوف لقال: تصفق بتاء التأنيث لأن (بردى) مؤنث.
[36563]:في ب: فحذف.
[36564]:عجز بيت من بحر المتقارب، وصدره: فلا مزنة ودقت ودقها *** ... قاله عامر بن جوين، وتقدم تخريجه.
[36565]:تقدم.
[36566]:يشير إلى ما نقل عن ابن كيسان من أنه يجيز ترك تاء التأنيث مع ضمير المؤنث المجازي في النثر. قال السيوطي: (قال ابن كيسان: يقاس عليه لأن سيبويه حكى قال فلانة) الهمع 1/171.
[36567]:انظر الكشاف 3/103، الفخر الرازي 24/106، البحر المحيط 6/511.