فلما أمرهم بعبادة الله وتقواه ، نهاهم عن عبادة الأصنام ، وبيَّن لهم نقصها وعدم استحقاقها للعبودية ، فقال : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } تنحتونها وتخلقونها بأيديكم ، وتخلقون لها أسماء الآلهة ، وتختلقون الكذب بالأمر بعبادتها والتمسك بذلك ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } في نقصه ، وأنه ليس فيه ما يدعو إلى عبادته ، { لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا } فكأنه قيل : قد بان لنا أن هذه الأوثان مخلوقة ناقصة ، لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وأن من هذا وصفه ، لا يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة من العبادة والتأله ، والقلوب لا بد أن تطلب معبودا تألهه وتسأله حوائجها ، فقال -حاثا لهم على من يستحق العبادة- { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } فإنه هو الميسر له ، المقدر ، المجيب لدعوة من دعاه في أمر دينه ودنياه{[623]} { وَاعْبُدُوهُ } وحده لا شريك له ، لكونه الكامل النافع الضار ، المتفرد بالتدبير ، { وَاشْكُرُوا لَهُ } وحده ، لكون جميع ما وصل ويصل إلى الخلق من النعم فمنه ، وجميع ما اندفع ويندفع من النقم عنهم فهو الدافع لها . { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يجازيكم على ما عملتم ، وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم ، فاحذروا القدوم عليه وأنتم على شرككم ، وارغبوا فيما يقربكم إليه ، ويثيبكم -عند القدوم- عليه .
واختلف في معنى { تخلقون } فقال ابن عباس هو نحت الأصنام وخلقها . سماها { إفكاً } توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة ، وقال مجاهد ، هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك ، وقرأ عبد الرحمن السلمي وعون العقيلي وقتادة{[9230]} وابن أبي ليلى «وتخَلَّقون إفكاً » بفتح الخاء وشد اللام وفتحها ، و «الإفك » على هذه القراءة الكذب ثم وقفهم على جهة الاحتجاج عليهم بأمر تفهمه عامتهم وخاصتهم وهو أمر الرزق ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، وأمر بابتغاء الخير عند الله تعالى وخصص { الرزق } لمكانته من الخلق فهو جزء يدل على جنسه كله ، ويقال شكرت لك وشكرتك بمعنى واحد ، ثم أخبرهم بالمعاد والحشر إليه .
جملة { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } تعليل لجملة { اعبدوا الله } . وقَصْرُهم على عبادة الأوثان يجوز أن يكون قصراً على عبادتهم الأوثان ، أي دون أن يعبدوا الله فهو قصر حقيقي إذ كان قوم إبراهيم لا يعبدون الله فالقصر منصب على قوله { من دون الله } أي إنما تعبدون غير الله وبذلك يكون { من دون الله } حالاً من { أوثاناً } ، أي حال كونها معبودة من دون الله ، وهذا مقابل قوله { اعبدوا الله } دون أن يقول لهم : لا تعبدوا إلا الله ؛ لكن قوم إبراهيم قد وصفوا بالشرك في قوله تعالى في سورة [ الأنعام : 78 ] { قال يا قوم إني بريء مما تشركون } فهم مثل مشركي العرب ، فالقصر منصب على عبادتهم الموصوفة بالوثنية ، أي ما تعبدون إلا صُوراً لا إدراك لها ، فيكون قصر قلب لإبطال اعتقادهم إلهية تلك الصور كما قال تعالى { قال أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] .
وعلى كلا الوجهين يتخرج معنى قوله { من دون الله } فإن { دون } يجوز أن تكون بمعنى ( غير ) فتكون { من } زائدة ، والمعنى : تعبدون أوثاناً غير الله . ويجوز أن تكون كلمة { دون } اسماً للمكان المباعد فهي إذن مستعارة لمعنى المخالفة فتكون { من } ابتدائية ، والمعنى : تعبدون أوثاناً موصوفة بأنها مخالفة لصفات الله .
والأوثان : جمع وثن بفتحتين ، وهو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان . والوثن أخص من الصنم لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب كصنم ذي الخلصة لخثعم ، وكانت أصنام قوم إبراهيم صوراً قال تعالى { قال أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] . وتقدم وصف أصنامهم في سورة الأنبياء .
و { تخلُقون } مضارع خلق الخبر ، أي اختلقه ، أي كذبه ووضعه ، أي وتضعون لها أخباراً ومناقب وأعمالا مكذوبة موهومة .
والإفك : الكذب . وتقدم في قوله { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } في سورة [ النور : 11 ] .
وجملة { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } إن كان قوم إبراهيم يعترفون لله تعالى بالإلهية والخلق والرزق ولكنهم يجعلون له شركاء في العبادة ليكونوا لهم شفعاء كحال مشركي العرب تكون الجملة تعليلاً لجملة { اعبدوا الله واتقوه } أي هو المستحق للعبادة التي هي شكر على نعمه ، وإن كان قومه لا يثبتون إلهية لغير أصنامهم كانت جملة { إن الذين تعبدون من دون الله } مستأنفة ابتدائية إبطالاً لاعتقادهم أن آلهتهم ترزقهم ، ويرجح هذا الاحتمال التفريعُ في قوله { فابتغوا عند الله الرزق } . وقد تقدم في سورة الشعراء التردد في حال إشراك قوم إبراهيم وكذلك في سورة الأنبياء .
وتنكير { رِزقاً } في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلاً . وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم أو تذكير بأن الرازق هو الله ، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف { واعبدوه واشكروا له } . وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم .
و { عند } ظرف مكان وهو مجاز . شبّه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به فاستعير له { عند } الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف .
وعُدّي الشكر باللام جرياً على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق .
ولام التعريف في { الرزق } لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام ، أي فاطلبوا كل رزق قلّ أو كثر من الله دون غيره . والمعرّف بلام الجنس في قوة النكرة فكأنه قيل : فابتغوا عند الله رزقاً ، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول ، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى .
وجملة { إليه ترجعون } تعليل للأمر بعبادته وشكره ، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثواباً وعلى ضده عقاباً إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت . وفي هذا إدماج تعليل بالعبادة بإثبات البعث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.