ولما أمرهم بما تقدم ، ونفى العلم عمن جهل خيريته ، دل عليه بقوله : { إنما تعبدون } ولما كان الله أعلى من كل شيء قال : { من دون الله } أي الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا ثاني ولا وزير ، وقال : { أوثاناً } إشارة إلى تفرق الهم بكثرة المعبود ، والكثرة يلزمها الفرقة ولا خير في الفرقة . ومادة " وثن " بجميع تقاليبها واوية ويائية مهموزة تدور على الزيادة والكثرة ، ويلزمها الفرقة من اختلاف الكلمة ، فيلزمها حينئذ الرخاوة فيأتي العجز ، وتراكيبها تسعة : في الواوي ثلاثة : وثن ثنو ثون ، وفي اليائي ثلاثة : ثنى نثى ثين ، وفي المهموز ثلاثة : أنث أثن نأث ، فمن الزيادة : الوثن ، قال القزاز : قال أبو منصور : الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة أو ذهب أو جوهر أو غيره ينحت فينصب فيعبد ، والصنم الصورة التي بلا جثة ، ومنهم من جعل الوثن صنماً - انتهى .
وقال عبد الحق : قال الهروي : قال ابن عرفة : ما كان له صورة من جص أو حجارة أو غير ذلك فهو وثن - انتهى . فقد علم من ذلك أنه لا بد فيه من صورة أو جثة ، وعلى كل تقدير فهو ثان لما شابه صورته أو جثته وزائد عليه . وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة : الصنم تمثال من حجارة على صورة الإنسان ، فإذا كان من خشب فهو وثن ، ويتخذ أيضاً من جص ، وربما صوروا في الحائط أيضاً صورة إنسان فتسمى تلك الصورة أيضاً وثناً ، والنصارى يفعلون ذلك ويصورون في بيعهم صورة المسيح وصورة مريم ويسجدون لها : واستوثن المال : سمن ، فزاد لحمه ، واستوثن من المال : استكثر ، والنحل : صارت فرقتين صغاراً وكباراً ، والإبل : نشأت أولادها معها ، وأوثن زيداً : أجزل عطيته ، والواثن : الشيء الثابت الدائم في مكانه ، فالزيادة فيه بالنسبة إلى زمانه ، ويمكن أن يكون من الرخاوة ، فإنه لا يثبت على هذه الصورة إلا ما لا قدرة له على حركة . ومن الفرقة : نثا الحديث - بتقديم النون - ينثوه وينثيه . يائي وواوي : أشاعه وحدث به ، والشيء : فرقه وأذاعه ، وأنثى : اغتاب وأنف من الشيء ، ولا يؤنف منه إلا على تقدير نشره ، والثوينا كالهوينا : الرقيق يفرش تحت الرغيف ليسوى ويعدل لأن يكون ظلمه ، والتثاون : الاحتيال والخديعة ، فإنها لا تكون إلا عن جمع فكر وتنبيه نظر ، وهي أيضاً لا تكون إلا من عاجز عن الأخذ جهاراً ، ومن ذلك تثاون للصيد - إذا جاءه مرة عن يمينه وأخرى عن يساره ، والثني من كل شيء ما يثنى بعضه على بعض ، ومن الوادي : منعطفه ، واثنونى : انعطف ، والثناء ككتاب : عقال البعير ، وهو حبل مثنى يعقل به يد البعير فتثنى ، والفناء لأنه يكثر انتيابه والتردد إليه ، وأثناء الشيء : قواه وطاقاته ، والاثنان : ضعف الواحد ، والمؤنث ثنتان ، وأصله ثنى ، والاثنين والثنى كإلى : يوم في الأسبوع ، وثنيته عن وجهه : رددته ، فصار له رجوع بعد ذهاب ، وثنيث الرجلين : صرت ثانيهما وأنت أحدهما ، ولا يقال : ثنيت فلاناً ، ولكن يقال : صرت له ثانياً ، والمثاني : القرآن أو ثني منه مرة بعد مرة ، أو الحمد ، أو البقرة إلى براءة - هكذا عبر في القاموس ، وفي مختصر العين : ويقال : سور أولها البقرة وآخرها براءة ، وذكر في القاموس في ذلك أقوالاً أخرى ، ومن أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى ، ومثنى الأيادي : إعادة المعروف مرتين فأكثر ، والثنية : العقبة أوطريقها أو الجبل أو الطريقة فيه - لأنها بطلوعها ونزولها أو تعاريجها كأنها ثنيت مرتين ، والثنايا من الأسنان : الأربع التي في مقدم الفم : ثنتان من فوق ، وثنتان من أسفل ، والناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير ثنى ، والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة ، وكأن ذلك كله من عرض يعرض لثنيه الحيوان ، والثنية : النخلة المستثناة من المساومة ، والثنية والثناء ، وصف بمدح أو ذم ، أو خاص بالمدح ، وذلك لأنه يكرر ، والثين بالكسر : من يستخرج الدر من البحر ، لأنه يكرر الغوص حتى يجد ويفارق مكانه لذلك ويفرق الدر من مكانه ، والثين أيضاً : مثقب اللؤلؤ ، لأن الثقب يفرق بين أجزائها ولأن المثقب نفسه يحرك فيكثر من حركته إذا فعل به ذلك .
ومن مهموزة ؛ نأث عنه : بعد ، والمنآث - بالضم ، المبعد ، والأثين : الأصيل ، لأنه ثان لأصله ، ومن الرخاوة الأنثى خلاف الذكر ، والأنيث من الحديد الرخو وهو ما لم يكن ذكراً ، والمؤنث : المخنث ، والأنثيان : الخصيتان والأذنان ، وأرض أنيثة ومئناث : سهلة ، وسيف مئناث : كهام أي قليل لا يقطع - فقد تحرر أن المادة كلها دائرة على ما لا ينبغي لرتبة الإلهية من الكثرة والفرقة والرخاوة ، ولذلك أتى بصيغة الحصر ، وهو قصر قلب لسلب ما اعتقدوه فيها من الإلهية .
ولما أشار لهم إلى عدم صلاحيتها لتلك الرتبة العلية ، والغاية الشماء السنية ، بكثرتها ، أشار لهم إلى قصورها أيضاً بتصويرها فقال بصيغة المضارع إشارة إلى ما يرى في كل وقت من تجدد حدوثها : { وتخلقون } أي تصورون بأيديكم { إفكاً } أي شيئاً مصروفاً عن وجهه ، فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع ، ومربوب وأنتم تعدونه رباً ، وعبد وأنتم تقيمونه معبوداً ، أو تقولون في حقها إنها آلهة كذباً .
ولما كان الإنسان محتاجاً أبداً ، فكان لا يزال متوجهاً إلى من ينفعه ، وكان قد أشار سبحانه إلى نقص معبوداتهم بنفي الخير عنها ، صرح بعجزها ، وأثبت اختصاصه بالخير ، لينتج اسحقاقه للعبادة دونها وأكده رداً لما كانوا يتوهمونه من نفعها وضرها فقال : { إن الذين تعبدون } ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح { من دون الله } المحيط بصفات الكمال ، المنزه عن شوائب الاختلال الذي لا يمكن أن يملأ جميع ما تحت رتبته شيء فكيف برتبته الشماء ، وحضرته العلياء { لا يملكون لكم } أي وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم { رزقاً } أي شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه ، فتسبب عن ذلك قوله : { فابتغوا } وأشار بصيغة الافتعال إلى السعي فيه ، لأنه أجرى عادته سبحانه أنه في الغالب لا يؤتيه إلا بكد من المرزوق وجهد ، إما في العبادة والتوكل ، وإما في السعي الظاهر في تحصيله بأسبابه الدنيوية " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .
ولما أشار إلى ذلك ، أشار إلى الإجمال في الطلب ، وأن لا يعتقد أنه لا محالة في السبب ، وإنما الأمر مع ذلك بيده ، إن شاء أنجح وإن شاء خيب ، بقوله : { عند الله } أي الذي له كل صفة كمال { الرزق } أي كله ، فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده ، وقد دخل فيه كل موجود ، فإن الكل خلق لذلك ، فأحكمت صنعته وربط بعضه ببعض ، فلو نقص منه شيء لاختل النظام ، فتبطل الأحكام { واعبدوه } أي عبادة يقبلها ، وهي ما كان خالصاً عن الشرك ، فإن من يكون كذلك يستحق ذلك ويثيب العابد له ، ويعاقب الزاهد فيه ، فلا يشغلكم ابتغاء الرزق بالأسباب الظاهرة عن عبادته ، فإنها هي الأسباب الحقيقية ، فربما حرم العبد الرزق بالذنب يصيبه { واشكروا } أي أوقعوا الشكر { له } خاصة على ما أفاض عليكم من النعم ؛ ثم علل ذلك بقوله : { إليه } أي وحده { ترجعون* } أي معنى في الدنيا والآخرة بأنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه ، وحساً بالنشر والحشر بعد الموت بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي في الدارين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.