الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَٰنٗا وَتَخۡلُقُونَ إِفۡكًاۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ لَكُمۡ رِزۡقٗا فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (17)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنما تعبدون من دون الله أوثانا} يعني: أصناما، {وتخلقون إفكا}، يعني: تعملونها بأيديكم، ثم تزعمون أنها آلهة كذبا وأنتم تنحتونها، فذلك قوله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات:96] بأيديكم من الأصنام.

{إن الذين تعبدون من دون الله} من الآلهة، {لا يملكون} لا يقدرون {لكم رزقا} على رزق، {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه}، يعني: وحدوه، {واشكروا له} واشكروا الله في النعم، فإن مصيركم إليه، فذلك قوله تعالى: {إليه ترجعون} أحياء بعد الموت.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل خليله إبراهيم لقومه:"إنما تعبدون" أيها القوم "من دون الله أوثانا"، يعني: مُثُلاً... عن قَتادة، قوله "إنّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا": أصناما.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وتَخْلُقُونَ إفْكا"؛ فقال بعضهم: معناه: وتصنعون كذبا...

وقال آخرون: وتقولون كذبا... وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتنحِتون إفكا... عن قَتادة "وتَخْلُقُونَ إفْكا "أي تصنعون أصناما...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: وتصنعون كذبا... فتأويل الكلام إذن: إنما تعبدون من دون الله أوثانا، وتصنعون كذبا وباطلاً. وإنما في قوله إفْكا مردود على إنما، كقول القائل: إنما تفعلون كذا، وإنما تفعلون كذا...

وقوله: "إنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقا" يقول جلّ ثناؤه: إن أوثانكم التي تعبدونها، لا تقدر أن ترزقكم شيئا "فابتغُوا عندَ اللّهِ الرّزْقَ" يقول: فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم، تدركوا ما تبتغون من ذلك "وَاعْبُدُوهُ" يقول: وذلوا له، "وَاشْكُرُوا لَهُ" على رزقه إياكم، ونعمه التي أنعمها عليكم. يقال: شكرته وشكرتُ له، والثانية أفصح من شكرته. وقوله: "إلَيْهِ تُرْجَعُونَ" يقول: إلى الله تُرَدّون من بعد مماتكم، فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره وأنتم عباده وخلقه، وفي نعمه تتقلّبون، ورزقه تأكلون.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لا يُدْرَى أيهما أقبح: هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم -فيما تزعمون كذباً- عن هذه الجمادات؟ وهي لا تملك لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً، ولا تملك لكم خيراً ولا شراً، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك. وبيَّنَ أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق فقال: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} لتَصِلوا إلى خير الدارين... وفي الآية تقديم الرزق على الأمر بالعبادة؛ لأنه لا يُمْكِنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر؛ فبالقوة يمكنه أداء العبادة، وبالرزق يجد القوة... {وَاشْكُرُواْ لَهُ}: حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام: إفكا، وعملهم لها ونحتهم: خلقاً للإفك.

فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

سماها {إفكاً} توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة... ثم وقفهم على جهة الاحتجاج عليهم بأمر تفهمه عامتهم وخاصتهم وهو أمر الرزق، فقرر أن الأصنام لا ترزق، وأمر بابتغاء الخير عند الله تعالى وخصص {الرزق} لمكانته من الخلق فهو جزء يدل على جنسه كله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع، وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة، وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعا منه أمرا في المستقبل، وإما لكونه خائفا منه.

فقال إبراهيم: {إنما تعبدون من دون الله أوثانا} إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثانا لا شرف لها.

{إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، إما في الوجود، وإما في البقاء، لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال: {فابتغوا عند الله الرزق} فقوله: {الله} إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله: {الرزق} إشارة إلى حصول النفع منه عاجلا وآجلا...

{فابتغوا عند الله الرزق} الموعود به، ثم قال: {فاعبدوه} أي اعبدوه لكونه مستحقا للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق {وإليه ترجعون} أي اعبدوه لكونه مرجعا منه يتوقع الخير لا غير.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وتخلقون} أي تصورون بأيديكم {إفكاً} أي شيئاً مصروفاً عن وجهه، فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع، ومربوب وأنتم تعدونه رباً، وعبد وأنتم تقيمونه معبوداً، أو تقولون في حقها إنها آلهة كذباً... {واعبدوه} أي عبادة يقبلها، وهي ما كان خالصاً عن الشرك، فإن من يكون كذلك يستحق ذلك ويثيب العابد له، ويعاقب الزاهد فيه، فلا يشغلكم ابتغاء الرزق بالأسباب الظاهرة عن عبادته، فإنها هي الأسباب الحقيقية، فربما حرم العبد الرزق بالذنب يصيبه.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كأنه قيل: استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فإنه إليه ترجعون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه: أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثانا -والوثن: التمثال من الخشب- وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله.. وثانيها: أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا، يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة.. وثالثها: أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا، ولا ترزقهم شيئا:

(إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا)..

وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق. الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم:

(فابتغوا عند الله الرزق)..

والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان. و لكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.

وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه:

(واعبدوه واشكروا له)..

وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين:

(إليه ترجعون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... تنكير {رِزقاً} في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلاً. وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم أو تذكير بأن الرازق هو الله، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف {واعبدوه واشكروا له}. وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم...

و {عند} ظرف مكان وهو مجاز. شبّه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به فاستعير له {عند} الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف. وعُدّي الشكر باللام جرياً على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق. ولام التعريف في {الرزق} لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام، أي فاطلبوا كل رزق قلّ أو كثر من الله دون غيره. والمعرّف بلام الجنس في قوة النكرة فكأنه قيل: فابتغوا عند الله رزقاً، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى. وجملة {إليه ترجعون} تعليل للأمر بعبادته وشكره، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثواباً وعلى ضده عقاباً إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت. وفي هذا إدماج تعليل بالعبادة بإثبات البعث...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(واعبدوه واشكروا له). وبتعبير آخر، فإن واحداً من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر للمنعم الحقيقي، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان أيضاً بذاته المقدسة.