قوله تعالى : { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } ، غالبين في أرض مصر ، { فمن ينصرنا من بأس الله } ، من يمنعنا من عذاب الله ، { إن جاءنا } ، والمعنى لكم الملك اليوم فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب ، وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حل بكم ، { قال فرعون ما أريكم } ، من الرأي والنصيحة ، { إلا ما أرى } ، لنفسي . وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم ، { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } ، ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى .
ثم حذر قومه ونصحهم ، وخوفهم عذاب الآخرة ، ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر ، فقال : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي : في الدنيا { ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } على رعيتكم ، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير ، فهبكم حصل لكم ذلك وتم ، ولن يتم ، { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } أي : عذابه { إِنْ جَاءَنَا } ؟ وهذا من حسن دعوته ، حيث جعل الأمر مشتركًا بينه وبينهم بقوله : { فَمَنْ يَنْصُرُنَا } وقوله : { إِنْ جَاءَنَا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه ، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه .
ف { قَالَ فِرْعَوْنُ } معارضًا له في ذلك ، ومغررًا لقومه أن يتبعوا موسى : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } وصدق في قوله : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } ولكن ما الذي رأى ؟
رأى أن يستخف قومه فيتابعوه ، ليقيم بهم رياسته ، ولم ير الحق معه ، بل رأى الحق مع موسى ، وجحد به مستيقنًا له .
وكذب في قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } فإن هذا قلب للحق ، فلو أمرهم باتباعه اتباعًا مجردًا على كفره وضلاله ، لكان الشر أهون ، ولكنه أمرهم باتباعه ، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق ، اتباع الضلال .
قول هذا المؤمن : { يا قوم لكم الملك اليوم } استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم .
وقوله : { في الأرض } يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم . ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله ، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون ، ولذلك استكان هو ورجع يقول : { ما أريكم إلا ما أرى } كما تقول لمن لا تحكم له .
وقوله : { أريكم } من رأى قد عدي بالهمزة ، فللفعل مفعولان أحدهما الضمير في { أريكم } والآخر ما في قوله : { إلا ما } وكأن الكلام أراكم ما أرى ، ثم أدخل في صدر الكلام { ما } النافية وقلب معناها ب { إلا } الموجبة تخصيصاً وتأكيداً للأمر ، وهذا كما تقول : قام زيد ، فإذا قلت : ما قام إلا زيد أفدت تخصيصه وتأكيد أمره . و { أرى } متعدية إلى مفعول واحد وهو الضمير الذي فيه العائد على { ما } ، تقديره : إلا ما أراه ، وحذف هذا المفعول من الصفة حسن لطول الصلة .
وقرأ الجمهور : { الرشاد } مصدر رشد ، وفي قراءة معاذ بن جبل : «سبيل الرشّاد » بشد الشين ، قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد فهو كعباد من عبد{[9989]} . وقال النحاس : هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود . قال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله . ويبعد عندي هذا على معاذ رضي الله عنه ، وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل .
{ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا }
لما توسم نهوضَ حجتِه بينهم وأنها داخلت نفوسهم ، أَمِن بأسهم ، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم ، فصارحهم بمقصوده من الإِيمان بموسى على سَنَن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود ، فوعظهم بهذه الموعظة . وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجدَ فرعون بُدّاً من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم ، وأيضاً فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي ، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيراً لهم من مصائبَ تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون . وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم « ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم{[359]} » ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله .
وابتداء الموعظة بقوله : { لَكُمُ المُلكُ اليَوْمَ ظاهرين في الأرْضِ } تذكيرٌ بنعمة الله عليهم ، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله ، يعني : لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما معرضان للزوال إن غضب الله عليكم .
والمقصود : تخويف فرعون من زوال ملكه ، ولكنه جعل المُلك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه .
والأرض : أرض مصر ، أي نافذاً حكمكم في هذا الصقع .
وفرع على هذا التمهيد : { فَمَن يَنصُرُنا مِن بأس الله إن جاءَنا } ، و ( مَنْ ) للاستفهام الإِنكاري عن كل ناصر ، فالمعنى : فلا نصر لنا من بأس الله . وأدمج نفسه مع قومه في { ينصرنا } و { جاءنا ، } ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض .
ومعنى { ظاهرين } غالبين ، وتقدم آنفاً ، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم .
والبَأْس : القوة على العدوّ والمعاند ، فهو القوة على الضر .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد }
تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد ، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى . ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قوللِ فرعون مَفْصُولاً غيرَ معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة .
ومعنى : { مَا أُرِيكُم } : ما أجعلكم رَائِين إلا ما أراه لنفسي ، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده ، فالرؤية علمية ، أي لا أشير إلا بما هو معتقَدي .
والسبيل : مستعار للعمل ، وإضافته إلى الرشاد قرينة ، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد . وكأنه يعرِّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي . والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بَيّن وكما هو مقتضى العطف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.