الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأۡسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَاۚ قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} (29)

قوله : { ظَاهِرِينَ } : حالٌ من الضميرِ في " لكم " ، والعاملُ فيها وفي " اليومَ " ما تَعَلَّقَ به " لكم " .

قوله : " ما أُرِيْكُمْ " هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ ، فتتعدَّى لمفعولَيْن ، ثانيهما { إِلاَّ مَآ أَرَى } .

قوله : " الرَّشادِ " العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ . وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها ، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو : ضَرَب فهو ضرَّاب ، وقد قال النحاس : " هو لحنٌ ، وتَوَهَّمه من الرباعي " يعني أَرْشد . ورُدَّ على النحاس قولُه : بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي ، وهو الظاهرُ . وقد جاء فَعَّال أيضاً مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ . قالوا : أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار ، وأَقْصَر فهو قَصَّار ، وأَسْأَر فهو سَآَّر ، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذاً كان يُفَسِّرها بسبيل الله .

قال ابنُ عطية : " ويَبْعُدُ عندي على معاذ - رضي الله عنه - وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة ؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ " . قلت : يعني ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك ، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه ، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب " الكامل " إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في " الرشاد " الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا ، وإنما هو في " الرشاد " الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك . ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه " اللوامح " : " معاذ بن جبل " سبيل الرشاد " ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسنُ ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه ، كذلك فسَّره معاذ ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر ، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر ، ولها نظائرُ معدودةٌ . فأمَّا " قَصَّار الثوب " مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً " فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ .

وقال أبو البقاء : " وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ " يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي . والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول .