البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأۡسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَاۚ قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} (29)

ثم قال : { يا قوم } نداء متلطف في موعظتهم .

{ لكم الملك اليوم ظاهرين } : أي عالمين : { في الأرض } : في أرض مصر ، قد غلبتم بني إسرائيل فيها ، وقهرتموهم واستعبدتموهم ، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجلها ، وهو من جهة شهواتهم ، وانتصب ظاهرين على الحال ، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور ، وذو الحال هو ضمير لكم .

ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا ناصراً لهم ولا دافعاً ، وأدرج نفسه في قوله : { ينصرنا } ، { وجاءنا } لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه .

وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه ، ولذلك استكان فرعون وقال : { ما أريكم إلا ما أرى } : أي ما أشير عليكم إلا بقتله ، ولا أستصوب إلا ذلك ، وهذا قول من لا تحكم له ، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد .

{ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } ، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب ، بل كان خائفاً وجلاً ، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ، ولكنه كان يتجلد ، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن .

وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين .

قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد ، فهو كعباد من عبد .

وقال الزمخشري : أو من رشد ، كعلام من علم .

وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من الفعل الرباعي ، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي ، بل هو من الثلاثي ، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي ، فبنى فعال من أفعل ، كدراك من أدرك ، وسآر من أسأر ، وجبار من أجبر ، وقصار من أقصر ، ولكنه ليس بقياس ، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة ، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه .

وقال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله .

قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه .

وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل . انتهى .

وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن : { اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } .

قال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له من شواذ القراءات ما نصه : معاذ بن جبل سبيل الرشاد ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسن ، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع ، كذلك فسره معاذ بن جبل ، وهو منقول من مرشد ، كدراك من مدرك ، وجباز من مجبر ، وقصار من مقصر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة ، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة .

وقال ابن خالويه ، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه : سبيل الرشاد بتشديد الشين ، معاذ بن جبل .

قال ابن خالويه : يعني بالرشاد الله تعالى . انتهى .

فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن : { أهديكم سبيل الرشاد } ، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن ، لا في قول فرعون .

قال ابن عطية : ذلك التأويل من قول فرعون وَهْمٌ .